بالأمس القريب كنت أشاهد محاضرة مرئية ألقتها سيليست هيديلي عن عشر طرائق لرفع مستوى الحوارات التي يؤديها الناس حول العالم، وبالنظر إلى كمية المعلومات التي أحسست بأنها مهمة بادرني فضول لأسأل نفسي حول الثلاثة ملايين ونصف الذين شاهدوا تلك المحاضرة، فهل هؤلاء الملايين حقـًا استفادوا جديًا أم كان موضوع المحاضرة جزءًا لا يتجزأ من منظومة الإلهاء التي نأخذ من خلالها القشرة الخارجية ونرمي ألباب المواضيع؟

إحدى الطرق العشرة التي أنارتنا بها هيديلي كانت «اختصار الكلام» غير أننا وعلى الشبكة العنكبوتية ترانا نكتب دون هوادة، دون تفاوض للوقت أو للطاقة، أناملنا فقط هي من تتحرك دون أن يتحرك العقل، مجرد تدفق الكلمات بالدقيقة على المواقع الاجتماعية مخيف جدًا، التواصل بحد ذاته قصة مخيفة أخرى، ولا شك أن مواقع التواصل الاجتماعية هي إدمان حقيقي، كمن يدمن على السيجارة والمخدرات وعلى صورة عمرو دياب .

ولما في التواصل الاجتماعي من إلهاء الذي يبعث الخطر، فإن ولأي بحث بالعالم يدور حول معاناة الشعوب ليحمل طابع الإنسانية الحسنة تجاه القهقهرة والاستغلال، وما أن علمنا أن الهدف الأسمى هو حماية شباب وبنات جلدتنا من هذه الأخطار، فأعتقد حينها أننا سنبدع في تجديد البدائل التي تصب في مصلحة الشارع الإسلامي، ولا أخفيكم حيطةً فالخوف ينبجس في قلبي حيال الغفلة التي يعيشها معظمنا، إننا أشخاص مساكين، انجرفنا إبان الفتنة وتعلقنا بعبوديتنا للتواصل الإلكتروني بشكل لا يراد لنا من خلاله أي نصر ولا أية صحوة.

ولكي تصحو الأمم فإننا بحاجة إلى النفس، تلك النفس التي هي أعظم مخلوق خلقها الباري عز وجل، لكن للأسف لا تجد النفس – بأهميتها وبدورها الفعال في استدعاء اليربوع والازدهار – تعمل بجد وبتحرٍ مستمريْن حيال كل العوائق التي تسببها لنا الدردشات الإلكترونية التي تمتلئ ساعاتنا بها وتعكر صفو البتول والعلاء وتأخرنا لأجل يعلمه الله عن قصص سبيل الرشاد، وقصة انغماسنا غير المحدود في الدردشات الإلكترونية خصيصًا وفي الشبكة العنكبوتية عمومًا هي قصة تحكي بإسهاب عن تخلفنا لميزان التفضيل الحقيقي.

  • ميزان التفضيل الحقيقي ينص على التعلم مع العمل والتقصي مع التعديل والاحترام مع الإنصاف، وهذا الثالوث يحتاج منا لملامسة الواقع الإسلامي والعربي والضرب في الأرض وخلق الأسئلة الواقعية لاكتساب الخبرة، بالتالي حل أكبر قدر ممكن من راديكالية المشكلة، فهل تحل الدردشات الإلكترونية هذه المشكلة؟
  • إن الدردشات الإلكترونية لا تبدو عاملًا مشتركـًا لجميع أصناف المجتمع، فهناك من يدمن عليها بسهولة وبالمقابل هناك من يتحسس منها ويقاومها قدر الإمكان، وبغض النظر عن نجاحه أم فشله في المقاومة إلا أن الفكرة التي نود ذكرها وهو أنها جزء من الميول، وبالتأكيد من يمتلك الإنترنت بأعلى السرعات وبأرخص الاشتراكات الشهرية سيكون عرضة أكبر لمتلازمة الدردشة الإلكترونية، وهنا نكتشف أن العوامل البيولوجية تلعب دورًا في أن ندردش من أن لا ندردش.
  • الدردشة الإلكترونية هي في تقديري باب ذريعة قوي جدًا، وباختلاف مصادر التلقي واختلاف القنوات في تبادل الكميات الهائلة من الكلمات والصور والمستدات التي قد يتخللها تجريح وشتم أو غيبة ونميمة، ناهيك عوامل انتهاك الحرية الفكرية الإلكترونية وعن التعديل والتحريف الذي قد يطرأ على كلامي تجاه أي شخص، وما قد يصاحب الشراء الإلكتروني من شبهات ومحرمات سواء في المال أو في إباحية المنتج، فهي باب ذريعة أساسي، دينيًا ودنيويًا، وعلينا وقبل كل عملية دردشة نود القيام بها، لا بد أن نعي الحقيقة التي تنصحنا بقراءة كل شيء في تلك الدردشة، إلا أنه من الخطر تصديق كل ما يقال إلا بعد تمحيص وتفنيد .
  • أعتقد أن المعركة الأبدية بين الإنسان والدردشة الإلكترونية ستبقي نفسها على ضفاف الفشل والنجاح على حدٍ سواء، بمعنى أن للدردشات عواقب للنجاح أو للرسوب، غير ذلك فإن جنوحنا إلى الدردشات الإلكترونية لا يزيد من حدة ذكائنا بالمجمل، إلا أنه وبالمجمل يوسع من الآفاق ومن مجالات البحث، غير ذلك فالدردشة بذاتها لا تطبخ للأمةِ إنسانًا مثقفًا، فالدردشة والشبكة بالعموم قد تساعدك على إيجاد أية معلومة – سياسية اقتصادية اجتماعية رياضية ثقافية – بأسرع وقت وبأقل جهد، إلا أنه لا يمكن للإنترنت أن يوجّهك إلى تصديق الأخبار من تكذيبها وبالتالي فإنه يترك لك النهايات المفتوحة التي قد يساق زبائنها إلى براثن الأشباح والإلحاد .
  • الدردشات الإلكترونية غرضة للبدانة، فهي تقتطع ساعات طوالًا من حياة البشر في السنة، ولأن مقدار التركيز والتفكير يكون أقل في مواضع كثيرة فليست هناك فرصة لتخسيس الوزن، بل إن عزم على ذلك فسيكتفي بتحميل فيديوهات لياقة ويقوم ببعض التمرينات في غرفة لا يتجاوز حجمها أربعة في أربعة، ناهيك على أنه قد يرى في انقطاعه عن التمرينات أمرًا سهلًا حسب الإلهاء المتجدد على الدردشات والمواقع، اختلفت الحياة فعلًا مع الدردشات وأرقام هواتف المطاعم والسوبرماركت التي لا تتناقص، وما عليك سوى الاتصال والتوصية والانتظار وصحة وعافية.
  • مواقع التواصل الاجتماعية أصبحت معيارًا لبعض الشركات للتوظيف، نعم لا أمزح فأنا أعرف أكثر من شركة وفور الانتهاء من المقابلة الشخصية التي لا يتجاوز نسبة قبولك من خلالها على الستين بالمئة، تذهب موظفة الشركة الجميلة «للبحبشة» في ماضيك الإلكتروني، ميولك هل أنت مع بن لادن؟ شيوعية؟ شيعية؟ هل تحب الفواكه؟ ما قهوتك المفضلة؟ الماركات المفضلة لك؟ كل هذا قد يدخل في عملية توظيفك يومًا ما، مما لا يدع فرصة للشك حيال قلة الإنصاف والتقدير، ومما لا يدع فرصة للشك حول ماهية الأجيال القادمة وحول الأمة التي نحن في صدد صياغتها .
  • والحلو المر في الدردشات الإلكترونية أنها تخبئ الحالة النفسية والعاطفية للفرد، وهذا سبب وجيه لأكثر الزبائن ارتيادًا لحانة الدردشات وكاباريهات الإنترنت، إذ إن الدردشات تكرس الضعف التفكيري والاستقصائي إذا ما أخذنا سوء استخدام الفرد على محمل الإحصاء، لذا وحينما يأتي اليوم الذي سوف تنطفئ شعلة الدردشات عن الأرض فستعلم حجم الضرر الذي قد لحق بعقول الناس وأبدانهم، وبعد انحسار غبار الدردشة وحينما ينزل الناس جميعهم إلى الشارع في حالة سخط لانقطاع الدردشات سترى جيلًا عاطفيًا يصطف جنبًا لجنب وقلوبهم شتى .
  • تكمن فتنة الإنترنت في حقيقة أنه أصبح مصدر دخل للفرد -وإن كان دخل ضئيلًا -مما قد يهب الإنسان وقته وجسمه وعقله للإنترنت، خصيصًا إذا ما علمنا أن علاقة المال ستكون طرديًا مع جهد جلوسك على حساباتك الخاصة، قد ينسى صاحبنا أن هناك حياة واقعية، قد ينسى شكل الشوارع والبيوت والأزهار، لكن حينما ينقطع رزقه الضئيل وتنقطع حبال الربح سيعود للمدينة والقرية وسيبيع في سوق الخضار وسوق السمك وسيصبح أغلى سلعة بذاته .

ما يعز على النفس أن العشرات من أصدقائنا يملكون لسانًا فصيحًا وعلى مقدار رفيع من الثقافة والارتجالية، وللآسف هذا فقط على الدردشات الإلكترونية، ففي خضم ذلك وحين الالتقاء على أرض الواقع، ستكون كل تلك الثقافة والارتجالية قد حملها النسيم بعيدًا على مهل، لتجد كميات خجل رهيبة، وتلكؤ يصحبه توتر مع الحوارات نفسها التي كانت تُناقش مسبقـًا على الدردشات نفسها! ولأننا في مرحلة الأسف ليس إلا فإننا نأسف كثيرًا على الجيل اليافع الذي يقعد عن جهاد (القلم-السلاح-العفة) ويضيع شبابه وعنفوانه على الدردشات، غير آبهين بعظمة أنفسنا ودورنا الفعال في دورة الصحة والنشاط للحفاظ على جنسنا البشري من الانقراض .

وإبّان جميع هذه المتناقضات وإبان غيرها من الانجرافات التي تقودنا إلى المكان ذاته في كل الأوقات، فإننا نرزح تحت هذا الخطر الكبير، الذي وإن نظرنا إليه بعين المنقذ، واعتمادنا عليه بالمقام الأول لصناعة أمة إسلامية سمحاء، فإن الأمر برمته وإحقاقـًا للحق سيكون مجردًا زائفـًا ومظلة من مظلات الهوى الكتابية والتواصلية، بل أعتقد أن التفاني في البقاء «أون لاين» في ظل الاستغفال عن صقل الشخصية، لهو خيانة يؤديها الفرد يسمَل بها عيونه وعيون وآمال مجتمعه، إن كل فرد مسؤول على ما تحويه الحوارات والمآلات التي ستؤول إليها النقاشات والمجادلات، ولأن المسؤولية جميلة فأعتقد بأنه من الممكن لنا أن ننشر مآثر جميلة جمه وإسقاطها للواقع ومشاركتها مع باقي أفراد العائلة الاجتماعية، بدلًا من ممارسة الاعتزال مع النفس واحتكار الفائدة – إن حصلت-.

ولكن لماذا نختار الإنترنت؟ لأنها أسهل منصة لنشر ما نريد في الوقت والمكان المناسب وغير المناسب، لا يوجد أمامك أية حدود وأية رقابة، لذا فهي استحواذ كامل يقوم على وهب مجموعة من السلوكيات الجديدة للفرد، فهي تأخذ العقل إلى نقطة غير منتهية يصبح بها الأفراد عبيدًا وإماءً، وتسحب الرائي إلى رابط صفحة أخرى وفق خوارزميات ذكية تعمل وتقرأ وفق سلوك الفرد وميوله، ولأن معظمها تحمل مواضيع بعيدة عن فحوى الرسالة المحمدية فإنها إلهاء يقود لسقوطٍ بالهمة وخور في العزيمة، لذا أعتقد أن زبدة كل ما في الأمر يتحدث عن الاستراتيجية، ذاك النوع من الاستراتيجية التي يجب بأن تكون إيقاظ عن الإلهاء الفظيع وإسقاط يجب أن يكون جميلًا على كل تجربة قد يشعر بها الإنسان بشيء من الإرهاب والاستغفال .

إن الناس على وجه العموم، تستمتع بالدردشات الإلكترونية بشكل هستيري، فقد وجدت رغم كل ما يحدث، أن ذلك يذكرها بأنها صاحبة السيادة على نفسها بالفعل، وأن هذا الإفراط الإلكتروني الذي تقوم به كالذي يصب في مصلحتها بالذات، إن الدردشة تمكنها من النسيان بأن بطونها خاوية ولو لبعض الوقت، وحتى لا نترك حجة فإننا نعلم جميعًا أن ليس كل حوار واقعي هو حوار مفيد، بل حاله كالدردشة عرضة للسقوط والتجادل، إلا أننا نريد استبدال كلمة «دردشة» التي جاءت من كثرته، مما جعل منها أن تكوة وبدون منازع «الحملة الكتابية الصمّاء»، وللآسف نرى أصدقاء كثيرين لنا يتبنون هذه الدردشات وينشغلون عنا بها، أتذكر قبل عام اقترحت على نفسي أن أفتتح عيادة بسيطة في غرفة شقتي لأعالج مريضًا بالدردشة ويحتاج إلى إلهام، قدِم بترحاب عريق فقلت له: كيف حالك يا مصعب فقال لي: انظر إلى مدونتي الإلكترونية!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

الدردشة
عرض التعليقات
تحميل المزيد