منعُ العرض أو التصوير، أو إحجام عن التمويل، أو صنصرة.. أخبارٌ كنت أقرأها كلّما تناول عملٌ فنّي عربيّ القضية الفلسطينية، حتّى إذا تعلّق الأمر بأغاني. لكن أتحدّث هنا عن الدراما التلفزيونيّة والسينما. تحديدًا من خلال استحضار جوانب من تجربة المخرج الراحل «شوقي الماجري» في مسلسل «الاجتياح» ثم فيلم «مملكة النمل».
مسلسل الاجتياح الذي كتب نصّه رياض سيف، ناقلًا من خلال الدراما مأساة اجتياح العدوّ الصهيونيّ للضفّة الغربيّة في 2002 ومعركة ومجزرة جنين. عملٌ احتاج ميزانيّة ضخمة أمّنها المنتج الأردني طلال عدنان عوامله (2007)، لكنّ للمفارقة تمّ منع تصويره في الأردن.. عقبةٌ تمّ تجاوزها من خلال الانتقال إلى سوريا حيث تمّ توفير التسهيلات اللازمة لفريق العمل. لكن كانت الخيبة لاحقًا من خلال إحجام القنوات العربية عن عرض المسلسل، ليُعرض على قناة وحيدة خلال شهر رمضان. هنا تبدّت سطوة اللوبي الصهيوني عربيًا.
لكن حصلت المفارقة الكبرى بعد سنة عندما ترشّح مسلسل الاجتياح لجوائز الإيمي Emmy Awards (أهمّ جوائز التلفزيون عالميًا) ونال جائزة أفضل عمل أجنبي. المسلسل الذي أحجم العرب عن عرضه عرف التّتويج في الولايات المتّحدة تقديرًا للمستوى الفنّي والجماليّ المتميّز للعمل، رغم تناوله قضيّة يفترض أن تكون أكثر حساسيّة لدى هؤلاء، حيث دائمًا نتحدّث عن قوّة اللوبي الصهيونيّ هناك، لكن يبدو أنّه أقوى عندنا، أو أنّ الخوف والخنوع أكثر تغلغلًا.
بعدها وجد المسلسل طريقه إلى عدد من القنوات العربيّة، وإن بخجل، أو خوف جعل قنوات حكوميّة وخاصّة في دول عربيّة كثيرة لا تشتري هذا المسلسل رغم الجائزة، ورغم قيام القناة السابعة التركيّة بعرضه مدبلجًا.
مرّ الماجري بعد ذلك إلى حلمه السينمائي بالسعي لإنتاج فيلم مملكة النمل. عملٌ عرف عراقيل أكبر بدءً بوزارة الثقافة التونسيّة التي طلبت أكثر من مرّة إدخال تعديلات على السّيناريو، ما أجّل نيل الدعم عدّة سنوات. مرورًا بالحلقة الأهمّ بتوفير الأموال اللازمة، فلا الإشعاع العربيّ والاعتراف العالمي بتمكّن الماجري، ولا سمعة المنتج التونسيّ الراحل نجيب عيّاد، الذي تبنّى العمل منذ البداية، كانا كفيلين بإيجاد من يُقدم على خوض غمار إنتاج هذا الفيلم.. قبل أن يكلّل الجهد بالنجاح ويجد شركاء من خلال شركتي إيبلا الدوليّة وسانيلاند.
إحجام المنتجين والقنوات العارضة قابله إقبالٌ جماهيري غفير، ذاك ما عرفه الفيلم أينما عُرض. كنتُ عاينت ذلك في صفاقس حيث نفدت التذاكر وربّما ساوى عدد الموجودين داخل قاعة المسرح البلدي (يوم 12 أكتوبر 2012) عدد من لم يحالفهم الحظّ وبقوا بالخارج. كان حضورًا طلّابيًا بامتياز رُفعت فيه شعارات المساندة للقضيّة الفلسطينيّة، أهازيج حماسيّة ذات رهبة رفعها الحضور قبل العرض وبعد انتهائه، بل كان التفاعل كذلك خلال العرض وإن كان لا يتناسب و«آداب المشاهدة».
لم يكن الفيلم بنفس الجودة الفنيّة للمسلسل، فالسّيناريو لم يكن بالإحكام الكافي، إذ مثلًا تأخّر حدث المنتصف فيه أكثر من خمس دقائق ما جعله يبدو بطيئًا الإيقاع بشكل جليّ، كانت تلك هنّة مؤثّرة على مستواه. أمرٌ تجنّبت التطرّق إليه لاحقًا خلال النقاش بل تجنّبت النقد فحتّى التعليق على الأمور التقنيّة لم يكن ممكنًا بسبب رداءة معدّات العرض في المسرح وقتها، وذلك ما علّقت عليه، واستمعت لنقاش مطوّل بين الحضور والمنتج نجيب عيّاد والممثلة صباح بوزويتة، غلب فيه الحماس للقضيّة الفلسطينيّة على التطرّق للأمور الفنيّة.
جمهورنا متعطّش متحمّس للأعمال التي تذكّره بالقضيّة الفلسطينيّة وتبقيها متّقدة في ذهنه، لكن أهل الفنّ عندنا يواجهون مصاعب كثيرة لإنتاج مثل هذه الأعمال، فهناك يد خفيّة تعرقل وتسوق صاحب المال للإحجام عن الإنتاج أو العرض، ما يجعل خوض تجربة إنتاج هذه الأعمال مجازفة بما تحمل هذه الكلمة من معنى. لكنّ شوقي الماجري أبى، إلّا أن يخوض غمار هذه التجربة لما للقضيّة الفلسطينيّة من مكانة في وجدانه، وقد استفدت عراقيل مشروع فيلم مملكة النمل جهدًا ووقتًا طويلًا من مسيرته. انتظر الماجري وارتقب معه الجمهور سنوات طويلة ليرى أوّل شريط طويل له يخرج إلى النور. وقد شاء القدر أن يكون الفيلم الوحيد في مسيرة المخرج الراحل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست