مع التعقيد المتعاظم للواقع وازدياد التحديات في حياة الناس تزداد أيضا الفرص والبدائل والإمكانات الجديدة، لكن رؤية هذه الفرص والقدرة على اغتنامها على النحو المطلوب يحتاج ما يكافئها من الاستعداد الفكري والمهاري والعتاد المفاهيمي القادر على استيعابها والتعامل معها، وإلا فإنها تضيع سدى وتبرز مكانها التعقيدات والصعوبات الجمة.
في شأن التربية، هذه العملية التي صارت محاطة بكل أشكال التعقيد في زماننا هذا، حيث أضحت تتم في وسط مفتوح على جميع المؤثرات الخارجية ومصادر التحريف المختلفة على نحو غير مسبوق، ما يجعل نتائجها مفتوحة على كل الاحتمالات، فإن السنوات الأولى من حياة الإنسان تعتبر فرصة ذهبية قد لا تعوض لغرس بعض القيم والمفاهيم في نفوس الأطفال وعقولهم، في مختلف المحاضن التربوية ومن خلال مختلف الوسائل والأدوات والفعاليات التي أتاحتها الإمكانات المعاصرة. وحيث إن الطبيعة تكره الفراغ، فإن عدم اغتنام هذه الفرصة على النحو المطلوب لا يعني ضياعها وحسب، ولكنه يعني تحولها إلى مشكل حقيقي يحرف البناء التربوي حرفا عن مساره الصحيح.
إن التربية تعني على نحو من الأنحاء، نوع من البناء المتدرج للصرح الأخلاقي والمعرفي والفكري والمهاري للإنسان، مع مقاومة كل ما من شأنه أن يضعف كيانه وفاعليته أو يحرفه عن منحى النضج الصحيح، بدءًا بتوفير البيئة الملائمة، وتكثيف التحديات والفرص والمواقف التربوية التي تسمح لملكات هذا الإنسان وقدراته ومواهبه بالنضج والنماء، وانتهاءً بإعطاء النموذج والقدوة الجيدة. إنه عمل حضاري وإنساني متواصل، يحتاج إلى ثقافة تربوية جيدة وإلى الكثير من الجهد والصبر مع الحكمة واليقظة، حيث ينطوي على مفارقة خطيرة:
فالمربي الذي يسعى إلى بناء الإنسان السوي وتقوية مناعته ضد كل أشكال الانحراف، العقدي والفكري والنفسي والأخلاقي والسلوكي، يمكن أن يكون هو نفسه السبب الأول في ذلك، من خلال أسلوب تربوي خاطئ يفتقد إلى الوعي والرشد المطلوب. وعندما يتعلق الأمر بالأطفال الصغار، هذه المخلوقات الهشة التي تبدي قابليات هائلة للتأثر والتطويع، فإن الأمر، كما وصف بعض التربويين، يبدو أشبه ما يكون بالتعامل مع بركان نشط ذي فوهتين قابلتين للانفجار والتوسع مع كل حركة وتفاعل، فوهة خلاقة وفوهة هدامة، ولا يمكن لاتساع واحدة منهما إلا أن يكون على حساب الأخرى!
في المشاهدات والمواقف اليومية، يعكس أسلوب التفاعل مع الصغار، على نحو تبادلي، نمط الثقافة التربوية السائدة، سواء أكان ذلك في البيت أو في المدرسة أو في الشارع أو حتى في برنامج تلفزيوني للأطفال، فالأسلوب التربوي الذي ينتهجه المربون هو انعكاس للمفاهيم والأفكار والرؤى التي يحملونها عن التربية وعن طبيعة التلقي لدى الأطفال، كما أن هذه الأساليب والممارسات التربوية تؤسس لطبيعة ونوعية المفاهيم التي يتلقاها الصغار عن المربين وطبيعة السلوكيات وردود الأفعال والتوجهات العامة التي تخط لهم، وما هذا إلا مظهر من مظاهر ذلك العناق الأبدي بين الشكل والمضمون.
من هذه المواقف النموذجية التي تبرز نوعية الثقافة التربوية العامة التي يملكها القائمون على الشأن التربوي في قطر أو في منطقة ما هي برامج مسابقات الأطفال. ولاستجلاء هذا الأمر سنعمد إلى عقد مقارنة بناء على ما يمكن تسجيله من اختلاف يدعو بشدة إلى التوقف والتأمل في طبيعة وطريقة تنشيط البرامج التلفزيونية لمسابقات الأطفال، بين تلك التي تعرض على بعض القنوات العربية ومن إنتاج عربي صرف، وتلك التي تعرض على قنوات أجنبية أو تستورد من بلدان أجنبية تقود قاطرة الحضارة اليوم، لنكشف عن بعض عيوب ثقافتنا التربوية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحديث هو ليس عن مجرد مشاهدات عابرة في الشارع العام حيث أغلب الممارسات التربوية دون عتبة النقد، ولكن موضع الحديث هو عن إطار تربوي منظم من المفروض أن يعكس أحسن أسلوب ممكن في التعامل مع الصغار، يشرف عليه محترفون تربويون، بل وتحت الأضواء المشتعلة للكاميرا!
كما لا بد من الإشارة إلى أن الهدف من عقد هذه المقارنة ليس مجرد الانتقاد السلبي لواقعنا التربوي، وعرض حلقة ساخرة أخرى من مسلسل تعرية مظاهر التخلف الحضاري العام الذي نعيشه، كما أننا لسنا بصدد التعميم، أو امتداح كل ما عند الطرف الآخر وذم كل ما عندنا، لكن المراد هو تسليط بعض الضوء على جزء من السبب العميق الذي يجعل أطفال أولئك القوم يظهرون أكثر ثقة بأنفسهم، وأكثر تقديرا لذواتهم، وأكثر إبداعا ونماء في قدراتهم ومواهبهم، كنموذج يعكس التدهور الذي أصاب ثقافتنا التربوية بشكل عام. ولطالما كانت المقارنة رافدا من أهم روافد الوعي، نعرف من خلالها أوجه القصور، كما جوانب التفوق، في حياتنا ونكتشف من خلالها بعض أخطائنا، التي لن نبالغ إذا وصفناها “بالخطيرة” حين يتعلق الأمر بالتعامل مع الصغار، بالنظر إلى آثارها المزمنة ووقعها الفادح على الأجيال.
(يتبع …)
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست