الجدة تطلق في اللهجة العراقية، على القابلة المأذونة، والتي تقابلها في اللهجة المصرية “الداية”، وهي التي تمارس عملية توليد الحوامل خارج المستشفى أو المركز الصحي، ولسنا هنا في إطار الطعن بهن بالجملة، وإنما نؤشر على الحالات التي اتخذت من هذه المهنة وسيلة تجارية سلعتها الأطفال، وزبائنها الأسر المحرومة من الإنجاب.
ولعل هذا يذكرنا بالمسرحية السورية “كأسك يا وطن”، عندما باع بطلها أطفاله خوفًا عليهم من الموت جوعًا، في ظل حالة الفقر التي لازمته، وأخذ يبحث لهم عن أسر ميسورة تنقذهم من الحرمان الذي بات يقلقه على حاضرهم ومستقبلهم أيضًا.
لكن في بلد غني مثل العراق، هل يمكن أن يصبح الجوع هاجسًا يخيف الآباء، والأسر، على الأبناء، إلى حد بيعهم من أجل أن يجدوا لقمة العيش في حواضن مترفة، غير أنها تعاني حرمانًا من نوع آخر هو عدم الإنجاب؟
والجواب يأتي بتلقائية، وبالمختصر المفيد: ولم لا، وما المانع، فثروات العراق غير موزعة بطريقة عادلة، ولا نطمع إلى القول “بالتساوي”، فكل ما تطمح إليه الطبقات المسحوقة، الحد الأدنى من نصيبها الوطني في النفط والغاز، على قاعدة عدوية “حبة فوق وحبة تحت”، وربما تفرض ظروف ما واقعًا يدفع المعيل إلى التنصل عن مسؤولية من يعيل، بسبب تغييب الأب الشرعي عن مسرح الحياة سواء بسجن سري، أو اختطاف، أو اغتيال، أو تصفية، أو تهجير، وبالتالي تتمزق الأسرة بين الأقارب، أو تضيع في الطرقات، بعد أن تصبح عبئًا لا يتحمل مأونتها أحد.
غير أن ظرفية العيش ليست وحدها هي المحرك والدافع لبيع الأطفال، وإنما هناك عملية تجارية أيضًا، بائع ومشترٍ ووسيط، نعم لابد أن نؤكد أنها لم تسجل حتى الآن كظاهرة، ربما بسبب سرية المعاملة، والتكتم الذي يحرص عليه أطراف الصفقة الثلاثة، لأسباب اجتماعية، وقانونية، لكن رائحتها أخذت تفوح.
أسرة تبحث عن طفل
لاشك، أن هناك جانب إنساني ينبغي أن لا يهمل، في هذه القضية، بالنسبة للأسر التي حرمت الذرية، ولا سيما بعد مرور سنوات من الزواج من دون أن يثمر عن طفل، بسبب أو بدون سبب، بحسب الرأي الطبي، مايدفع الزوجين إلى البحث عن طفل يملأ حياتهما، حتى وإن لم يكن من صلبيهما، ومن هنا تبدأ الحكاية.
القصة ليست هنا، وإنما فيمن يستغل الحاجة الملحة إلى الأمومة والأبوة، لزوجة عاقر، أو زوج عقيم، ويتحول عنوان الطفولة إلى بضاعة تباع وتشترى، وتخضع لمنطق السوق في فحص البضاعة والمساومة عليها، وبين البائع والشاري يفتح الله، على قول إخواننا المصريين.
وهذا ما حصل بالفعل، مع بطلي قصتنا، حيث انقطعت بهما الأسباب البشرية في إنجاب طفل، وتحولت حياتهما إلى جحيم، توتر دائم، مشاكل على أتفه الأشياء، وهي بالتأكيد انعكاسات للوضع النفسي من عدم وجود طفل يسليهما ويملأ حياتهما بهجة وسرورًا، فأخذا يفكران بالتبني، كخيار بديل، طرقا أبواب ملاجئ الأيتام لعلهما يجدان فيهما ضالتهما، لكنهما واجها عائقًا يحول دون تحقيق حلمهما، والمتمثل بتسجيل نصف البيت الذي يسكناه باسم المتبنى، كشرط لقبول التبني.
هنا ظهر طرف ثالث في القضية، وهو “الجدة”، التي قدمنا لها، حيث استطاعت بخبرتها أن تتلمس لهفة الزوجة إلى الطفل، لتضرب ضربتها، وحددت السعر مسبقًا، من دون مشاهدة ولا فحص، وهو ستة ملايين ونصف المليون دينار، واتفقا على الصفقة، وبعد أسبوع من الانتظار، جاءت الجدة تحمل طفلة “إسبيعية”، أي أنها مولودة في الشهر السابع، وكانت وضعية الطفلة من أول نظرة غير مشجعة، “ذبلانة ولا تبكي”، كما تقول الأم المتبناة، فأرجعتها، لكن اللافتة التي ترفعها الجدة “أن المباع لا يرجع”، حاولت الزوجة أن تذهب بها إلى طبيب أطفال لفحصها والتأكد من سلامتها، لكن الجدة رفضت ذلك، عارضة عليها خدمات ما بعد البيع، حيث تعهدت برعاية الطفلة لمدة شهر، ثم إعادتها إليها، وهي في وضع أفضل.
رضيت الأم المتبناة بهذا العرض، فلا خيار أمامها إلا أن ترضى، وأخذت الجدة الطفلة، لإعادة تأهيلها، وبعد انقضاء الشهر، جاءت بها وهي في كامل المواصفات، تتحرك وتبكي، و”منشنشة” على قولهم.
وبهذا، أبرمت الصفقة، وسجلت الطفلة باسم الأسرة التي تبنتها، لكن من دون أن يسأل سائل من أين جاءت الجدة بها؟
سخرية ملغمة
بعض المقربات من السيدة المتبناة، حاولن إغاظتها، وتذكيرها أن التي في حجرها، قد تكون ابنة غير شرعية، فيما علت من إحداهن ضحكة ماكرة وهي تقول “إنها لا تشبهك ولا تشبه أبيها”، فيما سخرت ثالثة منها بطريقة أكثر استفزازًا “أنت مشترية ودفعت ملايين، لماذا لم تختاري واحدة شقراء”.
رؤية الجدة
الجدة كانت ترى أن عملها خيري، فهي تنقذ طفلًا من الضياع، فيما توفر لأسرة تعيسة أسباب السعادة، مستشهدة بقوله تعالى: “المال والبنون زينة الحياة الدنيا”، ثم تردف قائلة:”عندهم المال، وأنا جئتهم بالبنين، وبذلك اكتملت سعادتهم”.
حاولت أن أتعرف على مصادر هؤلاء البنين، لكنها ردت عليّ: “أنت صاير براسي محقق”.
فرددت عليها، لا، لكنني أريد فقط أن أعرف أصل الأطفال لا غير.
فأجابت: من “تنوي” تشتري سأجلب لك شجرة العائلة للطفل الذي تريده.
طلب آخر
حدثت بعض الأصدقاء عن هذه الحالة، فإذا بهم ينظرون إليّ باستغراب، وقال لي أحدهم: أنت صحفي ولا تدري عن سماسرة بيع الأطفال.
سألته: ماذا تقصد؟
أجابني: الأطفال يصدرون اليوم إلى الخارج في صفقات بيع مريبة، وأنت “دايخ” في عملية بيع ربما توصف بالطبيعية.
هالني ماسمعت، وشعرت بوجود خطر داهم، ربما وراءه عصابات لسرقة الأطفال وتهريبهم، وعصابات أخرى لإنتاج الأطفال، بطرق غير شرعية، وعمليات عرض وبيع، وتجارة داخلية وخارجية، ودائرة مغلقة مجهولة النسب والهوية.
رن هاتفي، فإذا بسيدة، تريد عنوان الجدة، ولما سألتها لماذا: قالت أريد طفلًا منها، بشرط أن يكون ذكرًا مع بعض المواصفات التي نسيتها من هول ما سمعت.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست