سيبدو العالم أقل صخبًا بعد انتهاء ولاية دونالد ترمب، لولا أزمة فيروس كورونا والتداعيات الاقتصادية والسياسية الهائلة التي تسبّبت بها.

لا شيء كما قبل كورونا. حتى أزمة مثل أزمة تسليم الحكم في أمريكا أصبحت تفصيلًا في ظل الجائحة. اختفى سريعًا دونالد ترمب عن المشهد، ونحن أمام إدارة أمريكية جديدة تُواجه تحديات مصيرية لعلها الأصعب والأهم منذ انتهاء الحرب الباردة.

ترك دونالد ترمب تركة ثقيلة وملفات عالقة أبرزها ملفات الشرق الأوسط، من القضية الفلسطينية إلى حرب اليمن والملف النووي الإيراني. لكن عبء كورونا سرّع من وتيرة تهديد التحدّي الصيني.

فكورونا خلال عام قوّضت الاقتصاد الأميركي ومعه كبرى اقتصاديات أوروبا وسمحت للصين بتسجيل نقاط مهمة في مرمى الغرب، كَوْن الصين استطاعت سريعًا السيطرة على الجائحة حسبما تزعم.

ورغم أن كورونا كانت قد شلّت الاقتصاد الصيني في البداية إلا أنه استطاع التعافي بعد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية لمواجهة الجائحة. ومنذ السيطرة الكلية على الوباء بدأ الاقتصاد الصيني بالتعافي مقابل المزيد من التقويض للاقتصاد الأميركي.

راهن دونالد ترمب في العام الماضي على الاتفاق التجاري الأميركي – الصيني، لتسجيل معدلات نمو قياسية للاقتصاد الأميركي لكن كورونا أطاحت بكل الآمال وأغرقت الاقتصاد الأمريكي بالكساد وبمعدلات بطالة مرتفعة كذلك أطاحت بحظوظ ترمب بولاية ثانية.

في الوقت الذي كانت فيه الصين تتعافى وتسجّل معدلات نمو مهمة وتوقعات لحجم إقتصادها أخافت الغرب.

وبلغة الأرقام، أفاد مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال في دراسة له العام الماضي أن الصين ستُصبح أكبر اقتصاد في العالم عام 2028 أي قبل 5 سنوات من المتوقع، كما كان قبل كورونا.

وبحسب الدراسة التي تناقلتها مواقع اقتصادية عالمية مثل CNBC، أن الصين ستُسجّل نموًّا اقتصاديًّا بنسبة 5.7% بين عامي 2021 و 2025 قبل أن يعود لمعدل 4.5% بالسنة من 2026 و2030.

بالمقابل، ستُسجّل أمريكا معدلات نمو سنوية تبلغ 1.9% بين عامي2022 و2024 لتتراجع إلى 1.6% بعد 2024.

وتؤكّد الدراسة أن التنافس يُرجّح كفّة الصين في ظلّ تداعيات كورونا الاقتصادية.

هذه المتغيّرات يخشاها الغرب ويرى فيها تحديًّا جديًّا قد تقلب موازين القوى الدولية. لكن النظرة المريبة من طموحات الصين ليست مرتبطة فقط بكورونا بل كانت عاملًا أساسيًّا وطارئًا وشبه أولوية على أجندة الإدارات الأميركية منذ الرئيس باراك أوباما.

كان وصول أوباما إلى البيت الأبيض في ظل أجواء أزمة مالية عصفت بأمريكا والغرب ورفع حينها شعار التغيير. وكان التغيير سمة أساسية في سياسات أوباما الداخلية والخارجية وأهمها النظرة إلى الصين.

عمل أوباما بجهد لإغلاق ملفات الشرق الأوسط وتبريد الأجواء مع إيران عبر الاتفاق النووي لمواجهة تحدي الصين القادم. ووقّع اتفاقية تُعرف باسم الشراكة العابرة للمحيط الهادئ TPP وعمل على زيادة التواجد والثقل الأمريكي في منطقة آسيا عبر تعزيز التعاون مع دول مثل كوريا الجنوبية واليابان وفيتنام وماليزيا مقابل خفض عدد القوات الأميركية في الشرق الأوسط قبل ظهور داعش.

جاء عصر دونالد ترمب ورغم إختلافه الكبير وحقده على إرث أوباما إلا أنه كان متفقًا معه في النظرة المريبة للدور الصيني. ففرض عقوبات قاسية وتعريفات جمركية عالية على البضائع الصينية حتى توصّل الطرفان لواحد من أكبر الاتفاقيات التجارية في التاريخ قبل أن تحلَّ كورونا ضيفًا ثقيلًا على المشهد.

كل هذا يؤكد محورية وأهمية الصين والخوف الذي بدأت تُكرّسه على أجندات أي إدارة أمريكية، ما يعكس جوًّا سياسيًّا وعقائديًّا وثقافيًّا، بدأ يطغى على المؤسسة الأميركية.

اليوم هناك إدارة أميركية جديدة برئاسة جو بايدن. بايدن هو عضو من إدارة أوباما السابقة وكان يشغل منصب نائب الرئيس، و يشارك معه الرؤى نفسها تجاه الصين.

أوروبا اليوم مع أمريكا في نفس الخندق. التحدّي أساسي وواضح. ما تفعله الصين داخلها وفي العالم من مشاريع عملاقة وبأسعار تنافسية تجعلها عدوًّا صعبًا.

أسّست الصين وأطلقت مبادرة «حزام واحد طريق واحد» أو ما يُعرف بمبادرة «الحزام والطريق» عام 2013، والتي تلحظ إنشاء محطات تجارية وممرات في العديد من دول العالم لتصدير وتبادل البضائع والمنتجات الصينية. وتتوقع الصين عام 2049 الوصول إلى هدفها المنشود.

من خلال هذه المبادرة استطاعت الصين تملّك واستثمار العديد من المرافئ والممرات في باكستان وإسرائيل وغيرها، وهي تتذرع الآن بحماية هذه الممتلكات عبر تواجد أمني وعسكري صيني مُحتمل. كذلك في أفريقيا باتت الصين رقمًا صعبًا في منطقة كانت لزمنٍ قريب منطقة نفوذ للاستعمار الأوروبي.

المساعدات الإنسانية والصحية في زمن كورونا والإعلان عن لقاح صيني للفيروس هو من أدوات الإستراتيجية الصينية لتزّعم العالم.

واستطاعت الصين عقد وتأسيس أكبر كتلة تجارية في العالم عام 2020 عبر توقيع 15 دولة بقيادتها لإنشاء تحالف تجاري سيُعزّز من دورها وثقلها في العالم.

وتبقى تايوان خنجرًا غربيًّا في الخاصرة الصينية، وقد قامت الصين هذا العام مستغلة انشغال العالم بكورونا بالعديد من الخطوات والتحركات العسكرية والسياسية في اتجاه تقويض استقلال تايوان  وهي تعمل على تكرار ما فعلته مع هونغ كونغ. فمنطقة بحر الصين الجنوبي هي منطقة توتر عسكري بين أمريكا والصين التي تعد تايوان جزءًا من أراضيها فيما ترفض تايوان ذلك.

ما تُريده الصين هو تصدير نموذجها إلى العالم كبديل للنموذج الغربي. نموذج يقوم على سياسات التنمية السريعة والفعّالة دون الاكتراث لمعايير الشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان. نموذجًا إقتصاديًّا يخلط بين الرأسمالية والاشتراكية، يقوم على حكم الحزب الواحد عبر نخبة شيوعية تختار الزعيم الحاكم.

وفي ظل إستراتيجية صينية واضحة زاد من زخمها تداعيات هذه الجائحة، باتت أوروبا وأمريكا في وضعٍ صعب.

المشهد الحالي هو أن الكوكب كله غارق في أزمة كورونا ما عدا الصين التي تُسجّل نقاط أساسية.

فكيف سيتصرّف الغرب إزاء هذا التحدي؟

لا شكّ أن الخيار العسكري مستبعد جدًا بين الصين وأمريكا لأسباب كثيرة. هناك بالطبع خيارات أخرى سياسية واقتصادية وأمنية.

إستراتيجية بايدن الحالية كما تبدو حتى الآن هي شبيهة بإستراتيجية أوباما ولو صدقنا ما يقوله بايدن فإن أي اتفاق نووي مع ايران سيكون شاملًا وكاملًا وجذريًّا هذه المرة وهذه نقطة الاختلاف الوحيدة مع استراتيجية أوباما.

ما تلحظه الإستراتيجية هو تبريد جبهة الشرق الأوسط، عبر خطوات بدأتها بالفعل، مثل سحب تصنيف الحوثي منظمة إرهابية والدعوة لإنهاء حرب اليمن ووقف صفقات التسليح المتعلقة بالحرب الدائرة هناك والحثّ نحو إتفاق نووي مع إيران يُنهي حالة العداء بين دول المنطقة وبين إيران والغرب.

حالة التبريد هذه تعكس تراجع أهمية الشرق الأوسط لصالح أهمية الصين. فما كان يهمّ أمريكا في المنطقة هو النفط وإسرائيل، واليوم لم يعد النفط ذات أهمية إستراتيجية كما كان في الماضي كون أمريكا أصبحت مكتفية ذاتيًّا. وتُراهن على اتفاقيات التطبيع والاتفاق النووي الإيراني الجديد وحلّ الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين لإنهاء حالة الصراع العربي الإسلامي – الإسرائيلي.

وستلجأ أمريكا إلى تعزيز تواجدها السياسي في منطقة شرق آسيا وتعزيز التعاون مع دول المنطقة لترسيخ ثقلها وإعادة التوازن خصوصًا بعد الاتفاقية الصينية الأخيرة التي قلبت الموازين.

لكن كل هذا مُتوقف على قدرة دول الغرب على النهوض من أزمة كورونا الحالية وتعزيز سياسات التلقيح العالمية للتخلّص من عبء الصين كما يراه الغرب.

وفي ظل هذا الترقّب لنهاية الوباء والصعوبات اليومية التي تظهر، يبدو أن الأمور تزداد صعوبة على الغرب والتحديات قاسية والصين يومًا بعد يوم، تُكرّس قوتها كمعادلة دولية صعبة سيضطّر الغرب قريبًا للتعامل معها كمعادلة قائمة بحدّ ذاتها.

الواضح حتى الآن أننا نعيش حاليًا في ظل حرب باردة غير معلنة بين الغرب والصين. حرب باردة مُكتملة المواصفات والمعايير بين نموذجي الصين والغرب. وعلى دول العالم قريبًا أن تحسم خيارها لصالح أي النموذجين ستتبنى؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد