مقدمة

كتب عملاق الإعلام العربي الدكتور فيصل القاسم مقالًا بتاريخ 22 ديسمبر (كانون الأول) 2016 في شبكة أورينت Orient Net، تحت عنوان: «هل تعرف من يحكم العالم يا بوتين؟» موبخًا فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه لا يعرف أن من يحكم العالم يجب أن يكون عملاقًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا، إضافة إلى القوة العسكرية الفائقة! فالكل يعلم أنه ليس لدى روسيا من الشركات العملاقة سوى شركة غاز بروم، وليس لديها من التكنولوجيا الرقمية لمنافسة الغرب ولو بصنع هاتف نقال، أي أن روسيا متخلفة في كل المجالات مقارنة بنظرائها الغربيين! أما أمريكا والغرب فإنهم يحكمون العالم لوجود الشركات الكبرى في بلادهم والتي تتحكم باقتصاديات العالم. إضافة إلى سيطرتهم على المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتقدمهم التكنولوجي الكاسح. هذا صحيح بلا جدال، ولكن ما يحمي سيطرة أمريكا والغرب عمومًا على العالم واقتصاده، هو القوة العسكرية الهائلة التي طوروها ولا يزالون، والتقدم التكنولوجي الرهيب في المجال العسكري. فلولا حاملات الطائرات التي تجوب بحار العالم، والقواعد العسكرية المنتشرة هي الأخرى في كل القارات، لما تمكنت أمريكا من فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية على العالم وجعلت القرن الذي تلا الحرب العالمية الثانية يُسمى باسمها حتى هذه الآونة. فالاقتصاد القوي وحده لا يضمن الهيمنة على العالم، (علمًا بأن الاقتصاد الأمريكي آخذٌ بالانحدار كما سنرى)!

اليابان وألمانيا أمثلة حية على قوة الاقتصاد، ولكنهما تحت الرقابة والحماية الأمريكيتين، لمنعهما من تطوير قدراتهما العسكرية بناءً على نتائج الحرب العالمية الثانية، فلو سمح لهما بتطوير قوتهما العسكرية، ربما سبقا أمريكا اقتصاديًا وتكنولوجيًا، إلا أن وجود القواعد العسكرية الأمريكية في البلدين ليس للحماية فقط لأن الاتحاد السوفييتي انهار من ربع قرن، ولكن وجودها للسيطرة ومنع تلك الدولتين من التطور بما يفوق تطور أمريكا نفسها! ولكن روسيا اليوم في طريقها لتدعيم اقتصادها عن طريق مشاركة الصين في مشروع القرن المسمى اختصارًا «أوبر» أو OBOR  مع العشرات من دول آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا، تحت مظلة القوة النووية الهائلة التي تملكها روسيا، وسنرى الدور الروسي الكبير في هذا المشروع العملاق، إن من ناحية حمايته عسكريًا أو المساهمة فيه اقتصاديًا (وليس هذا حبًا في روسيا أبدًا، ولكن وصفًا لمعطيات الواقع!)

 ما هو OBOR؟

OBOR هو اختصار لكلمات One Belt, One Road أي «حزام واحد وطريق واحد». وهو المشروع الاقتصادي الهائل الذي بدأته الصين عام 2013، بناء على اقتراح الرئيس شي جنبنغ Xi Jinping، لإحياء طريق الحرير Silk Road، المشروع الذي بدأ منذ أكثر من ألفي عام، والذي كان يتألف من طرق تجارية ربطت الصين بآسيا الوسطى والوطن العربي وأوروبا، وكانت مادته التجارية الرئيسية هي الحرير الذي صدرته الصين لتلك البلاد، ومنها اشتق المشروع اسمه، إضافة إلى البهارات والعطور. وساهم هذا المشروع في تنمية المنطقة المذكورة لمئات السنين قبل توقفه مع قيام الإمبراطورية العثمانية عام 1453 التي عارضت الغرب. ويهدف OBOR لإنشاء أوسع برنامج للتعاون الاقتصادي الذي يشمل تنسيق السياسات والتعاون في التجارة والتمويل، إضافة إلى التعاون الثقافي والاجتماعي، حسب تيان جنتشن Tian Jinchen  مدير قسم التنمية الغربية التابع للمفوضية الصينية للإصلاح والتنمية الوطنية. وقال جنتشن إن المشروع سيكون مفيدًا للجميع. وأبدت أكثر من 60 دولة، بناتج محلي يقدر بـ 21 تريليون دولار، اهتمامها للمشاركة في خطة مشروع OBOR. وأكدت صحيفة الفايننشال تايمز أهميته بالقول: «إنه أكبر مشروع للدبلوماسية الاقتصادية منذ مشروع مارشال الذي قادته أمريكا للبناء بعد الحرب وهو يشمل عشرات الدول بمجموع عدد سكان يصل إلى أكثر من ثلاثة مليارات إنسان». وإضافة للطرق البرية سيكون هناك طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين الذي سيربط المياه الإقليمية في آسيا والوطن العربي وإفريقيا حتى يدخل البحر الأبيض المتوسط عن طريق قناة السويس ثم إلى أوروبا! كما في الخريطة التالية:

القرن الصيني - الروسي

قوة المشروع وضعف أمريكا

يقول المستشار والباحث الاستراتيجي وليام انجدال William Engdahl: «ما رأيته في زياراتي المتعددة للصين، وما درسته حول كلية هذا المشروع للبنى التحتية الدولية المثير للإعجاب، يقنعني أن القرن الأوراسي في هذه المرحلة غير قابل للإيقاف”. وأضاف انجدال بأن الحروب الغبية في سوريا وأوكرانيا وليبيا والعراق واستفزاز الصين في بحر الصين الجنوبي لن توقف هذا المشروع العملاق. وهنا يذكر انجدال مظاهر تدهور الاقتصاد الأمريكي، فيقول إن الولايات المتحدة التي كانت سابقًا البلد الرائد في الصناعة والإبداع، أصبحت اليوم خاوية وفاسدة من الداخل: فهذه ديترويت ولوس أنجلس وفيلادلفيا قد أصبحت منعزلات للعاطلين عن العمل والمشردين، بعد أن كانت في قمة الازدهار! إن دَيْن الولايات المتحدة أصبح 19.5 تريليون دولار أي ما يعادل 103% من اجمالي الناتج المحلي. أي أن كل دافع ضرائب أمريكي مدين بـ 163,000 دولار. ويذكّر أن البنية التحتية تحتاج لـ 3.3 تريليون دولار في العقد القادم لتجديدها فعمرها أكثر من أربعين عامًا. إنه زمن غروب القرن الأمريكي الذي بدأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واستمر لحوالي سبعين عامًا! قرن الغطرسة والتكبر الذي قاده أباطرة المال كديفيد روكفلر David Rockefeller ورفاقه في الوول ستريت Wall Street ومجمع الصناعات العسكرية. أما القرن الأوراسي، كما يسميه انجدال، فقد جاء بسبب البروز الاقتصادي للدول المجاورة للصين كروسيا وروسيا البيضاء وإيران وتركيا. بل وسيربط هذا المشروع العملاق دول OBOR بأوسع مشاريع البنية التحتية العامة في التاريخ الحديث.

 الاهتمام والمشاركة الروسية بمشروع OBOR

كل هذا يدل أن لروسيا دور هام جدًا في هذا المشروع العملاق، وبرغم بعض المزاعم من أن روسيا قد تكون منزعجة من هذا المشروع وينافس مشروعها المسمى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي EEU، إلا أن المدير التنفيذي لصندوق الاستثمار الروسي المباشر RDIF السيد كيريل ديمترييف، وهو أيضًا المدير التنفيذي المشار لصندوق الاستثمار الروسي الصيني، قال: «إن مبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد OBOR مهمة جدًا لروسيا، ذلك أنها تؤمن مصادر تنمية إضافية. كما أن روسيا تقع استراتيجيًا بين أوروبا والصين، وعليه فإننا نستطيع المشاركة في توفير المزيد من الربط والاتصال في المشروع». وأضاف أن فريقه يتطلع لمزيد من الفرص الاستثمارية المرتبطة بالمشروع بعد أن قامت بعدد من الاستثمارات الناجحة. كما أكد الباحث الكبير في مركز كارنيجي في موسكو السيد ألكساندر غابويف Alexander Gabuev على أنه: «ستكون الصين البنك، وستكون روسيا البندقية الكبيرة». في إشارة واضحة إلى قوة روسيا العسكرية والقادرة على حماية المشروع والرغبة القوية في المشاركة من أجل النمو والتطور الاقتصادي. واكد الكاتب نيكولاي نيكولايف Nikolay Nikolaev في موقع منظمة southfront.org ان لروسيا دور هام في انجاز المشروع، وأن البلدان اتفقا على نقل الطاقة من موسكو إلى بكين بواسطة أكبر مشاريع الطاقة في التاريخ. وأكد أن أنابيب غاز مشروع «طاقة سيبيريا»، والذي قيمته 400 مليار دولار، تُبنى الآن وأن أول شحنة ستصل بكين في عام 2019.

نزاهة وحياد

والأهم من هذا كما يقول انجدال هو أن الرئيس الصيني شجع على إنشاء مراكز بحوث think tanks خاصة ومستقلة بعيدًا عن سلطة الدولة والأحزاب الحاكمة، لتكون مصدرًا للأفكار والمفاهيم الخلاقة! ولنلاحظ أن مراكز الأبحاث خاصة ومستقلة عن الحكومات! وعلى عكس التجمعات الإقليمية الأخرى، كالاتحاد الأوروبي، فإن المشروع الأوراسي يطبق ميثاق الأمم المتحدة، حيث يسمح لأي دولة المشاركة في المشروع في أي وقت تشاء بلا شروط كما يفعل الاتحاد الأوروبي مع تركيا مثلًا، باعتبار تركيا عضوًا في حلف الأطلسي ودولة أوروبية. ربما هذا أحد الأسباب التي ستؤمن نجاحًا باهرًا للمشروع. كما أن الرئيس الصيني شي جنبنغ بدد مخاوف الدول المرتبطة بالمشروع بتأكيده على اللاآت الثلاث وهي:

  • لا تدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى
  • عدم السعي لزيادة ما يسمى مناطق النفوذ
  • وعدم السعي للهيمنة والسيطرة

وهذه المبادئ هي عكس ما كان عليه «القرن الأمريكي» الذي اتسم بالهيمنة والغطرسة والاستعمار الغير مباشر للعديد من الدول وتقديم المصلحة الأمريكية بشكل سافر على مصالح الشعوب الأخرى، بل ونهب خيراتها بأبخس الأثمان. وهذه المبادئ، تحديدًا، تؤرق الغربيين عمومًا وأمريكا بشكل خاص! ويأمل الصينيون ومعهم شعوب المشروع الأوراسي العملاق أن يزرعوا بذور عصر جيوسياسي جديد!

في الطريق للنجاح

المشروع في طريقه للنهاية السعيدة، حيث وقعت الصين مذكرات تفاهم مع 56 دولة ومنظمة إقليمية. كما زار الرئيس الصيني 37 دولة لمناقشة تطبيق فكرة المشروع الأوراسي العملاق OBOR، كما وقعت شركتي الخطوط الحديدية والاتصالات عقودًا مع 26 دولة لإنشاء طرق وخطوط رئيسية تخص المشروع. كما بدأ إنشاء 40 مشروع للطاقة في 19 دولة تابعة للمشروع، تشمل محطات طاقة وشبكات نقل الكهرباء وأنابيب نقل الغاز والنفط. إضافة إلى أن شركات الاتصالات الصينية بدأت بتسريع مشاريع الإرسال عبر الحدود في بلدان المشروع الأوراسي OBOR لتوسعة البنية التحتية للاتصالات الدولية. وإلى الآن حوالي 3 تريليون دولار، أي ربع حجم تجارة الصين تدفقت عبر طرق هذا المشروع. وللتو موّل المستثمرون الصينيون إنشاء نفق قطارات تحت البوسفور في مرمريا بتركيا بتكلفة ملياري دولار، وربما هذا أحد أسباب الحقد الغربي والأمريكي خاصة على تركيا! ولا ننسى أن الأراضي الروسية والأوراسية بما فيها الصين تحتوي على أعلى تركيز من المواد الخام غير المستغلة! إذًا أصبح من المستحيل إيقاف هذا المشروع الذي التزم الغرب، وخاصة أمريكا، اتجاهه صمت القبور!

خاتمة

أمريكا لم تعد أمريكا ما بعد الحرب الثانية! فهي اليوم تحيك المؤامرات هنا وهناك، لإسقاط زعيم أو إشعال الفتن في الكثير من البلدان، ثم تديرها بطريقة قطاع الطرق الأوغاد. وكما أصبحت تعين كبار الإرهابيين ناطقين باسمها لتهديد الدول التي تحاول الاستقلال بقرارها! ولعل أحد ملامح الضعف الأمريكي هي طريقة استقبال باراك أوباما في مطار هانغزهو الصيني في سبتمبر (أيلول) الماضي، حيث أخرجوه من باب الطوارئ وكأنهم يقولون له: لا أهلًا ولا مرحبا! وإن دل هذا على شيء، فلا يدل إلا على الضعف والخسة والانهيار القادم! وروسيا تسرح وتمرح في وطننا العربي وكأن أمريكا ليست إلا ذنبًا لها! كيري حفظ الطريق إلى موسكو وجنيف للقاء لافروف، دون أن يتنازل لافروف للذهاب إلى واشنطن! بل ربما تدخلت في انتخابات الرئاسة الأمريكية كما تتهمها الـ CIA. كما ستتدخل (ربما) في انتخابات ألمانيا وفرنسا وبقية دول أوروبا!

تعقيب

يتفاءل البعض بـ «القرن الصيني – الروسي» القادم بناء على ما ذكرنا في هذا المقال وبغضًا بغطرسة الأمريكيين، ويتشاءم آخرون لخوفهم من قيام «قرن» البلطجية، بدلًا من قرن «قطاع الطرق»! والكثير وأنا أولهم يتمنى سقوط «القرنين»، والله المستعان!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد