أعد نفسي من أشد المعجبين بالتجربة الصينية، وأهوى شديدًا مراقبة الصينيين وفهم أفعالهم ومبرراتها، حتى أنني كنت أسألهم لو صدر منهم فعل غريب على ثقافتي أو أفكاري. كنت أبحث وراءهم، وأقرأ ما يفسر لي الشخصية الصينية. لم أشبع شغفي حتى الآن، ولا زلت ألهث، ولم يرو عطشي بعد.
تحتفظ ذاكرتي بكل ما مررت به منذ اختياري لدراسة اللغة الصينية، وكان ذلك بمحض إرادتي، ولأسباب واضحة، وأهداف محددة؛ وهي البحث وراء سر هذا البلد، نعم هو سر جميل ملهم. لم يجذب انتباهي أي نشاط متعلق باللغة والمسابقات المختلفة عنها، لكن جذب انتباهي انجذابًا شديدًا تلك الندوات، والكتب، والمحاضرات، وكل المصادر التي تتحدث عن ثقافة هذا البلد وتاريخه. جذب انتباهي أيضًا كل الأخبار السياسية والاقتصادية التي تتحدث عن الصين. وجدتني أنجذب للبلد وتاريخها وثقافتها قبل أن أنجذب للغتها. أردت أن أعرف كيف صنعوا هذا التقدم من اللاشيء؟ وكيف غزوا العالم بإنتاجهم؟ كيف صار السوق صينيًّا خالصًا؟ فإن كنت لا تدرك بعد أن الصين هي القائد القادم للعالم؛ فلا بد وأنك بحاجة لإعادة تفكيرك.
الصين ليست بدولة حديثة العهد، فهي من أقدم الحضارات التي عرفها التاريخ، واستطاعت الصين أن تعقد رباطًا وثيقًا بين حضارتها العريقة وحاضرها العظيم الملهم. على الرغم من اعتزازي بانتمائي للحضارة المصرية القديمة وتاريخها الفرعوني، لكننا فقدنا ذلك الرابط الذي يصلنا بماضينا ويثبت أقدامنا بالجذور فلا نسقط، لكن الصين ظلت متعلقة بتاريخها وصنعت منه مجدًا متواصلًا، الحاضر مربوط بالماضي لا ينفصلان. أما إذا نظرت إلى المجتمع المصري ودققت النظر؛ ستجده هشًّا غير واضح المعالم، لا تدري لأي فكر أو ثقافة ينتمي. لا يعرف الكثير عن تاريخ بلده، ولا يدرك من أين أتت جذوره.
يصيبنا التيه بين أن يكون مرجعنا الأساسي الدين، أو أن نخرج وننطلق ونندمج مع المجتمعات الأجنبية فنأخذ طابعًا علمانيًّا ننكر صفته إذا وجه لنا سؤال عنه؛ لأن الجذور الدينية تنادينا والطابع (إياه) لتلك المجتمعات يعجبنا، فلا ندري لأي أرض نهبط وننتمي. أما عن الصين، فأجد في كل ركن فيها شيء يحكي عنها وعن تاريخها، ويدرك شعبها ذلك التاريخ ويحفظه وينتمي له ويحبه ولا يريد أن يستبدله بآخر. إن صفة الانتماء هي الصفة الأكثر وضوحًا على الشخصية الصينية. ألمح في عيونهم حبًّا وانتماءً وفخرًا، وليس ذلك فقط، ولكن طاعة وانصياع تام لأولي الأمر، وهذا هو أحد الأسرار التي تفسر نجاح المنظومة.
كان احتكاكي الأول بالثقافة الصينية من خلال المعلمة الصينية التي أتت للتدريس في جامعتنا. كانت دؤوبة ونشيطة بصورة لم أرها سوى فيهم. لمست تلك الصفة مرة أخرى بشكل أوسع عندما سافرت إلى الصين بغرض الدراسة. هم شعب دؤوب ونشيط ولا يشكو أبدًا. وكما ذكرت من قبل أن الشخصية الصينية تعتز اعتزازًا قويًا ببلدها، وتنتمي انتماءً وثيقًا لها. والشخصية الصينية تؤمن بمبدأ «الطاعة» حتى أنها تنسى نفسها فلا تدري إلى أين مستقرها، فهي تتبع مرؤوسها (من سكات).
أنا لا أبالغ مطلقًا عندما أقول أن الشخصية الصينية لا تجرؤ أن تعمل فكرها إذا جاء الأمر من رئيسها سواء كان ذلك الرئيس هو الوالدين أو الرئيس في العمل أو حاكم البلد. وعند الحديث عن الحاكم وحكومته، لا بد من ذكر أن الصين ترى أن الحكومة هي ربها الأعلى، والدستور هو قرآنها، وخطب رئيس جمهوريتها هي أحاديثها النبوية.
يرى الفكر الصيني أن ما دمت مرؤوسًا فأنت لا تملك من العلم الكافي ما يعطيك حق التعبير عن رأيك وإعمال عقلك، عليك فقط أن تطيع الأمر ولا تجادل. على سبيل المثال، إذا أصدر مديرك أمرًا متعلقًا بالعمل، فعليك تنفيذه في الحال، لا يمكنك حتى أن تسأل عن السبب، كل ما يجب عليك فعله هو تنفيذ ما أُمرت به فقط. وعن تجربتي الشخصية في هذا الشأن، فقد وجه لي مديري الصيني انتقادًا مباشرًا لأنني كنت أُكثر من الأسئلة حول ترتيباته وأوامره الصادرة الخاصة بعملي في الشركة، وقد جذب ذلك انتباهي. وجدته يخبرني ويؤكد أنه يجب أن أنفذ جميع أوامره الخاصة بالعمل، ولا أسأل عن السبب، كل ما علي فعله هو التنفيذ.
كان يتعجب من الجدال أو مجرد السؤال عما يخص العمل. هو يسمح فقط بالسؤال في نطاق محدد وهو السؤال عن كيفية تنفيذ الأمر لا عن سبب إصداره. لا أقول أن مصر لا يوجد بها هذا النوع من الشخصيات، ولكن ما زالت الشخصيتين مختلفتين تمامًا. الشخصية الصينية تنصاع للأمر بسهولة وبدون تأفف. على العكس، المصري لا يحب أن ينساق، وإذا أردت أن تجعله ينساق لا بد وأن تقوم بذلك دون علمه، فتستخدم معه السيكولوچية التي تجعله يظن أنه يمشي وفقًا لرغباته وآرائه.
أما في الصين، فهو يعرف أنه تابع لا قائد ويرضى بذلك ويقتنع أنه الخيار الصحيح، ويؤمن أنه بلا حول ولا قوة لأن يكون من صناع القرار. قال لي أحد الأصدقاء الصينيين أن الفكر الثوري الذي يتبعه بعض الأشخاص فكر فاشل يتبعه الكسول، ذلك من لا يريد أن يعمل، فيخرج إلى الشوارع ويقول أنه ثوري، بينما في الحقيقة هو لا يفقه ملامح المشهد السياسي. لا أناقش هنا صحة الرأي من عدمه، لكن النقطة التي أؤكد عليها هي كيف يفكر الصينيون؟ وكيف يحللون المواقف ويستخرجون الأسباب والنتائج؟ نقطة البداية عندهم تنطلق من مبدأ الطاعة، وتنتهي عندها. يؤمنون أن زعميهم هو الأدرى والأحكم والأمهر.
وعلى الصعيد السياسي، فهم يلمسون التغيرات الإيجابية التي طرأت على الصين، وكيف تغيرت حياتهم من الفقر والتخلف إلى الغنى والتقدم؟ وهذا سبب منطقي يجعلهم يثقون بقائدهم، بل ويجعلونه رئيسًا مدى الحياة. الحقيقة أن هناك دراسات ومقالات أشارت إلى كون الديكتاتورية قد يكون لها مفعول أعمق وأكثر نجاحًا من الديمقراطية، وأن الديكتاتورية قد توحد الشعب والأفراد على كلمة واحدة، لكن ذلك يتحقق لو كان القائد حكيمًا وذا خطة دقيقة ومنظمة، وذلك ما حدث في الصين.
صنعت من الديكتاتورية نظامًا محكمًا، ونهضة شاملة، وحضارة جديدة يشهدها العالم ويشهد لها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الصين الآن جاهزة لتقود العالم، ولكن عندما تتسلم هي راية القيادة -إن كان لها راية- فهي لا تتبع خطى القائد الأسبق، وهكذا يفعل رؤساء العمل، مادام أصبح رئيسًا لم يعد مضطرًا إذًا للانصياع لمرؤوسه، أصبح بوسعه فرض سيطرته وتنفيذ خطته، وذلك في نطاق الحدود التي يسمح له بها رئيسه الأكبر.
الحياة في الصين تسير هكذا في دائرة محددة تتكون من رئيس ومرؤوس، وتؤمن أن هذه الطريقة هي المثلى لبلوغ الهدف، ولكي يظل كلٌ في مساره. إن كنت لا أجرؤ على إنكار نجاح التجربة على الرغم من الآثار الجانبية لها، لكن تغلبني جذوري المصرية، فأجوب بفكري هنا وهناك أبحث وأخطط متجاهلة ما خطط له مديري، حتى يعترض طريقي متسائلًا عما أفعل ولم أفعل؟ فأريد أن أخبره أنني كنت أحاول التفكير خارج صندوقه، فينبهني بألا أكررها، وأنفذ ما طلب في الحال. من ناحية أخرى أجد زملائي ينبهوني إلى أن عدم طاعة رئيسي في العمل يعرضني للرفد، لكنهم لا يدروون أن الثقافة المصرية تقول: «يغور اللبن من وش القرد»، ذلك على الرغم من إيمانها أن «أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست