ظل التراث قضية كبرى مطروحة للنقاش بين أصحاب الأفكار المختلفة، حيث يسعى كل صاحب فكر إلى تطويع التراث كيفما شاء وبما يخدم رأيه في المعاصرة، والتراث الذي نمتلكة نحن العرب يحمل في طياته تاريخًا حضاريًا وتنوعًا فكريًا وتجارب مجتمعية وثقافات مدمجة وارتفاع في الحضارة وصلت لأقصى درجات الرفعة، وسقوط مدو أعقبه انحطاط ومحاولات فاشلة لانتشال الأمة من براثن التفتت، ثم صعود مرة أخرى بشكل مختلف متميز مدروس، صاحب ذلك كله اختلافًا فكريًا وتشرذمًا مجتمعيًا كان قائدًا رئيسًا في كثير من الأحيان للفشل في محاولات الإصلاح المختلفة.
وفي كتاب التراث والمعاصرة للدكتور أكرم ضياء العمري الذي صدرت طبعته الأولى في شعبان 1405هـ الموافق عام 1985 عرض فيه الكاتب قضية التراث بمفهومها الشمولي لتوضح العلاقة بين التراث والمعاصرة، وأبرز مفاهيم التراث الجديرة بالاهتمام والعناية، التي لا غنى لنا عنها في تشكيل شخصيتنا الحضارية، ووقوفنا أمام تحديات العصر.
تحدث الكاتب في الفصل الأول والذي عنونه بملامح حركة إحياء التراث والمعاصرة عن التراث كمصطلح وأوضح الفرق بين المفهوم في ثقافتنا العربية وفي الثقافة الغربية، وذكر ملامح الخلاف بين الظروف التي أحاطت حركة الإحياء الإسلامية وحركة الإحياء في الغرب في عصر النهضة الأوروبية فيما يسمى الرينيسانس، والتي استمرت تقريبًا من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر الميلادي، والتي سعت إلي توثيق العلاقة الفكرية والنفسية بالتراث الروماني واليوناني متجاوزين تاريخ الكنيسة والنصرانية بسبب العداء الشديد بينهم وبينها، وهو ما يمكننا أن نتلمسه في أدبيات القرون الأربعة المتعاقبة منذ عصر النهضة حتى القرن العشرين، حيث كان الأدب على سبيل المثال يستوحى من الأدب اللاتيني واليوناني مادته، حتى أن المدرسة النقيضة للكلاسيكية والتي عرفت بالرومانتيكية، متمثلة في (ديدرو، فولتير، روسو، دالامبير، كونورسيه) كان يغلب عليها التحلل من الدين والتقاليد، رغم أن بعضهم مثل روسو عبر عن إيمانه بالله وأن ثورته أساسًا على الكنيسة وفلسفتها التربوية.
وأوضح الكاتب بأن التراث الإسلامي والذي بدأ تدوينه في القرن الأول يوضح المستوي الحضاري للأمة ومدي تنوع نشاطها في الماضي، ولقد كتبت معظم المؤلفات بلغة أدبية رفيعة ترتفع بالذوق الأدبي وبالثروة اللغوية للقارئ، وإن كانت من مزايا التراث لغته الأدبية، إلا أنها تؤدي الآن للعزلة بينه وبين الجماهير التي تحتاج إلى تيسيره، هذا التيسير يحتاج إلى أقلام تؤمن بعقيدة الأمة الإسلامية وتقر بجدوى تجديد روح الأمة وقيمها بالارتكاز علي جذورها الحضارية والثقافية.
ولقد عرج الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب والذي حمل عنوان التراث والمشكلات المعاصرة إلي إلقاء نظرة على بعض المشاكل التي تواجه المجتمع الإسلامي الحديث، وكيف أن الحضارة الغربية تعاملت معها بقيمها وتعاليمها وثقافتها بما يختلف تمامًا عن قيم المجتمع الإسلامي وتعاليمه وثقافته.
ومن هذه المشاكل هي الترابط بين أفراد المجتمع وخاصة بين أفراد الأسرة، التي تعد العصب الرئيس للحفاظ علي المجتمع وتكويناته وترابطه، والتي فشلت فيه الحضارة الغربية حين أرادت التعامل معها بعيدًا عن الدين، حيث أظهرت الإحصائيات أن أكثر من ثلث مواليد نيويورك في عام 1983 مثلًا هم أطفال غير شرعيين ولدوا خارج نطاق الزواج، ومشكلة كهذه تضرب المجتمع وتنشئ جيلًا يخترق الأعراف والقيم التي اتفق عليها البشر على اختلاف أديانهم وأعراقهم وبيئاتهم، فالمجتمعات تحتاج إلى قيم أخلاقية ومثل عليا ترسى عليها القواعد التي تبنى عليها الحياة الاجتماعية، وتنضبط بها سلوكيات الأفراد والجماعات، وتراثنا أدبًا وتاريخًا واجتماعًا يقدم النماذج والتطبيقات التاريخية التي تعمق القيم الخلقية الإسلامية في نفوس الجماهير.
ومن المشاكل التي تحدث عنها الكاتب مشكلة الوحدة بين أمة الإسلام كمشكلة سياسية، وهل كانت الدولة العباسية في عصرها الثاني (كنموذج للحركة الفكرية)، والتي كانت مليئة بالدويلات الداخلية مثالًا واضحًا بأن الوحدة ليست من أولويات التقدم، وهو ما حاول المستشرقون بثه وترسيخه في عقولنا، إلا أنه بالنظر لأسباب الحركة الفكرية المميزة في تلك الفترة، ودراستها وفق القوانين الاجتماعية وسنن نشأة الدول وارتقائها وضعفها، نجد أن تلك الحركة الفكرية كانت عاجزة عن مواكبة التقدم في هذا الوقت، بل إن تأثيرها على الجمهور كان ضعيفًا، فهذا الإزدهار الفكري هو ثمرة طبيعية للتطور التاريخي للحركة الفكرية، الذي لو صاحبته الوحدة السياسية لكان الازدهار أعظم، وخاصة أن الوحدة الإسلامية تقوم أساسًا على بناء شخصية المواطن المسلم، وتعميق انتمائه للأمة الإسلامية، وتجاوز للوطنية والإقليمية والقومية وتمايزه عن الأممية والعالمية.
كما طرح الكاتب المشكلة التشريعية، وهل نحتاج إلى التحرر من مدارس الاجتهاد، ونرتبط بمصادر التشريع الأولى من الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، ونهمل مرحلة طويلة من الاجتهاد الذي عمل عليه العديد من العلماء المسلمين على مر العصور.
فاستخدام التراث للوصول إلى التشريع الملائم للمجتمع له العديد من الضوابط الذي ينبغي على المشرعين الإلتزام بها خوفًا من الفوضي الفكرية والدينية والفقهية.
وطرح الكاتب المشكلة الثقافية في طريقة التعامل مع منتجات المستشرقين عن كتب التراث العربية، وكيف كان المحور في الأحكام على المنتج الفكري العربي والإسلامي من منظور العلم الغربي فقط، في حين لو تم تطبيق المنهج العربي على ما أفرزه التراث الغربي لأدي به إلي الهاوية، فعلى سبيل المثال لو قمنا بأية قراءة في كتاب (المفصل) لابن حزم أو (هداية الحيارى) لابن القيم، سنجد أن إعمال المنهج الإسلامي في دراسة أديان وعقائد اليهود والنصاري يهدم معظم جوانبها، ويشكك بها دون أي تعسف أو تعصب، ولهذا يتوجب العمل على إحياء المنهج الإسلامي وتطويره، ولعل ما ذكره المفكر البريطاني برتراند رسل من أن الأسلوب العلمي قد ولد من زواج مذهبين فكريين، أتت بكل واحدة منهما حضارة عظيمة، أولها تنظير الإغريق، وثانيها اختبار العرب، يدلل على مساهمة الحضارة العربية في ظهور الحضارات أخري، فتزاوج المذهبان أدى في الغرب إلى النهضة الحديثة، ولابد أن ندرك دور القرآن في منهج البحث التجريبي، فهو من خاطبهم وحسهم على النظر إلى الطبيعة، واكتشاف ما بها من أسرار عن طريق الاختبار والتجريب باستخدام العقل والحواس، وأثمر التفاعل العربي مع القرآن إنتاج الفكر الإسلامي لمناهج أخرى للبحث في العلوم الشرعية والاجتماعية، ولهذا كان التخلي عن المنهج الإسلامي في البحث العلمي من أبرز عوامل تراجع المسلمين عن طريق التقدم الحضاري.
واتجه الكاتب لبيان أهمية اللغة في الفكر والحضارة فهي الوعاء لهما، فبها يتم التعبير عن المعاني، وبها تتكون شخصية الأمة، فكلما ارتقت الأمة انتشرت لغتها، وتقاس حيوية الحضارة بلغتها المعبرة عنها.
وفي الفصل الثالث والأخير يقدم الكاتب للجامعات في العالم الإسلامي الطريق للحفاظ على التراث، حيث إنها هي السبيل لتكوين العقل الإسلامي، وإعداد عقول المستقبل، وضرورة الانسلاخ عن التعليم العلماني، الذي أنشأ أجيالًا بعيدة عن الإسلام جاهلة به، كما أننا لابد أن نسعى لتغيير التعليم التقليدي إلى تعليم متجدد، يحمل تقدم العصر وروح التراث ويقين الإسلام في التقدم، فمثلّا الجامعات الإسلامية حديثة التواجد، إلا أن أثرها في إحياء شخصية الأمة وارتباطها بماضيها المجيد يبعث على أهمية دعمها، ليس ماديًا فقط، بل يزيد على هذا الجانب الباحثين الأكفاء، والأساتذة المتخصصين، كما دعا الكاتب إلى تلازم التربية والتعليم فعلًا وليس بالقول فقط.
كما ذكر الكاتب إستراتيجية للدراسات الإسلامية وللثقافه الإسلامية، ترتكز على عدد من الجوانب، منها دراسة ماضي وحاضر الثقافة العربية، ودراسة خصائصها، ومراعاة مبدأ التراكم المعرفي والاستفادة من تكنولوجيا التعليم. ووضع الكاتب عددًا من المهام أولها وأهمها إيجاد هيئة تدريس تتمكن من تلبية احتياجات التعليم الإسلامي، وثانيها إعادة صياغة مناهج العلوم الاجتماعية، والثالثة وضع إستراتيجة للبحوث الإسلامية.
وفوق كل هذا لا بد عن وجود انفتاح على الثقافات العالمية، ولكن تحت مظلة الضوابط التي تقي من الانحراف، وأصلها هو وجود روح الانتماء لهذا الدين ولهذه الأمة روحًا وفكرًا وسلوكًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست