لا يشكُّ اثنانِ بأنَّ اللغة العربية لغةٌ كثيرةُ القواعدِ متفرعةُ الأصول، وبانَّ الإلمامَ بقواعدها وأصولها لا يعني بالضرورةِ القدرة على الكلامِ بها أو إعطائها حقَّها باللفظِ والبيان، وقد تباهى العربُ وتباروا منذُ قديمِ الزمان بقوةِ الفصاحةِ وغزارةِ المعنى.
وفي زمانِنا الذي ابتعدنا فيه نسبيًا عن اللغةِ العربية الفصيحة، وطمست اللهجاتُ العاميةُ كثيرًا من كلماتِ المعاجمِ العربية، صارَ المتحدثونَ بالعربيةِ بإتقانٍ يُشارُ إلى أحدهم بالبَنان ولسانُ حالِ أحدهم يقول (أغردُ خارجَ السربِ وحدي، عندي ما عندكم «اللهجة» وليسَ عندكم ما عندي «الفصاحة»).
المستقرئُ لمتحدثي اللغة العربية والمتواصلُ مع الأشقاءِ العرب سيجدُ للسوريينَ سمعةً جيدةً إذا ما قُورنوا بغيرهم من البلدان المجاورةِ لهم والذين غزت اللغاتُ الأخرى عَربيَّتهم. «وخاصة الفرنسية والإنجليزية» وسيجدُ منهم أشخاصًا يُمتعونَ متابعيهم بسلاسةٍ منقطعةِ النظير! والسلاسةُ هنا يُقصدُ بها سرعةُ الأداءِ وسلامةُ اللفظِ وسهولته حتى تستقبلهُ الأذنُ باستساغةٍ وعذوبةٍ وكأنَّها لم تعتد سماعَ غيره! هذا ينطبق بشكلٍ كبير على أمثلةٍ كثيرةٍ اخترتُ في هذا المقالِ الحديثِ عن اثنين منهم وسأقف عندَ الأوَّل أكثر من الآخر وهوَ الدكتور محمد عصام محو (سوري يعمل محاضرًا في عدة جامعات منها جامعة الإمارات وتمت دعوتهُ للحديث محاضرًا في عشرات البلدان العربية والأجنبية) واعتبرتهُ إحدى المدونات الرسمية في بلدهِ رائدَ تدريبِ الصوت في العالمِ العربي.
أقنعَ «محو» جمهورهُ بأنَّ المزاحَ باللغةِ العربية الفصيحة ممكن! فهوَ وبمرونةٍ ذكيَّة يتلاعبُ بطبقاتِ صوتهِ ويُفاجئُ المستمعَ بانخفاضٍ مفاجئٍ بطبقته ليسترقَ ضحكاتِ جُلهم في محاضرةٍ علمية.
اندثرت «كما ألمحنا» الكثير من الكلمات العربية القديمة لكنَّ «عصام محو» بما تبقَّى منها يستطيع أن يسردَ محاضرةً علمية مدتها ساعتين! وكأنه يقولُ رسالةً مفادها: «ما تبقى من لغتنا وافٍ وكافٍ ولا داعي لاستخدامِ الكلماتِ الصعبة أو استرجاعها»!
لا يتقعَّرُ «محمد عصام محو» بحروفِ اللغة فهوَ ينطقها بشكلٍ عادي دونَ خلطٍ صارَ موجودًا بينَ أحكامِ قراءة القرآن وبينَ ما تطلبهُ العربية الفصيحة في الكلامِ العادي أو المحاضرات العلمية البسيطة.
يتجنبُ الدكتور محمد عصام استخدامَ الطبقاتِ العالية! التي صارت اليومَ علامةً فارقةً لدى بعض خطباء المساجد والذينَ صارت وللأمانة أساليبهم مُنفِّرةً للكثيرين «ونؤكدُ هنا على عدمِ التعميم» وما نقولهُ حالةٌ يجمعُ عليها كثيرون أما المذكورُ في المقالِ فيحكي عربيً فصيحةً بصوتٍ أشبه ما يكون بصوت اللهجةِ العامية! حيثُ تسمعُ صوتَ العاميةِ بكلماتِ تنسابُ مثلها ولكنها صحيحةٌ في النطقٍ أصيلةٌ في المعنى وسليمةٌ في المبنى.
أما الإعلامي «أحمد فاخوري» فالآخر لديهِ قدرةٌ على الدمجِ الذكيِّ بين اللغة العربية الفصيحة وبينَ العامية! بل وبلهجاتٍ مختلفة! فمرَّة تجدهُ يتحدثُ باللبنانية ثم يعودُ للفصحى ثم يقفزُ منهما إلى اللهجةِ العراقية! ولكنهُ لا يخلط بل يقفزُ بوعي ولا أرى عيبًا بذلك إذا كانَ القفزُ بهذا الذكاءِ والانتقالِ «الواعي».
السؤال هنا: هل المقصودُ أن نترَك العامية ونتحدث الفصحى؟ بالطبع ليسِ هذا هو المطلوب كما أنهُ أمرٌ صعبُ المنال ويحتاجُ إلى ثقافةٍ وقدرةٍ سماعيةٍ وجرأة لكنَّ حبذا لو تجدُ اللغة العربية على الأقل مكانًا في دروسِ أبنائنا أو في تحبيبِ أبنائنا فيها فهيَ لغةٌ تستحقُ الاعتناءَ والهناءَ والفخر بها، ليسَ لأنها لغةُ القرآن فقط أو لأنها لغةُ مئاتِ الملايينَ في العالم بل لأنها لغةٌ حيةٌ حافظت على نفسها من الضياع وأثبتت أنها غزيرةٌ ومتجددة على الرَّغمِ من ذكوريَّتها «وهذا موضوعٌ يحتاجُ مقالةً منفصلة».
أخيرًا من قالَ بأن اللغة العربية الفصيحة حكرٌ على المثقفين؟! ها هم الصغارُ والكبارُ يتابعونَ المذكورَيْن في هذهِ المقالةِ بشغف وصاروا أكثر حبًا للغة العربية وسماعها وربما تطبيقها مستقبلًا.. فالأذن تعشقُ قبل العينِ أحيانًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست