أكثر شيء يمكن أن يصدمك هو أن تعود إلى مدينتك لتكتشف أن الكتبي الذي تعرفه قد استبدل بكتبه أحذية.
هذا ما حصل معي، فقد كانت صدمتي كبيرة عندما عدت إلى مدينتي بعد غياب مدة من الزمن، وقصدت الكتبي الذي اعتدت اقتناء الكتب من عنده فوجدته استبدل بها بيع الأحذية.
مؤكد أن الرجل قام بذلك عن إدراك لواقع المجتمع الذي يعيش فيه، ومؤكد أنه كتاجر يبحث عن الربح، يعرف جيدا أن ما يمكن أن يكسبه من بيع الأحذية أهم بكثير مما يمكن أن يكسبه من بيع الكتب. نتحدث عن الربح المادي طبعا، لكن العجيب أن بائع الأحذية يستطيع أن يضمن ربحا جيدا رغم انتشار المنافسين، في حين أن بيع الكتب يبقى تجارة غير مضمونة الربح، حتى إن غابت المنافسة، وكان الكتبي الوحيد في المدينة.
لا أظن أن هذه المعلومة الأشبه بمسلمة كانت غائبة عن صديقي الكتبي ـ سابقا ـ لكني أظنه كان يصارعها محاولا استفزاز المارة بعرض كتبه ـ التي يتراوح ثمنها بين 20 و 150 درهما ـ أمام محلات بيع الملابس الجاهزة، وهو يراهم يدخلون ويخرجون حاملين أكياس الملابس التي لا يقل ثمن القطعة الواحدة منها عن 150 درهما. وبدلا من أن ينجح هو بكل وسائله في لفت انتباههم لكتبه، نجحوا هم دون جهد، ودون قصد في جعله يتخلى عن مهنته التي أحب ـ كما أظن ـ و يستبدل زبائنه، من عقول إلى أقدام.
أظنني أشترك مع صديقي الكتبي في الهدف، أنا التي قضيت سنوات طويلة في محاولة نقل عدوى المطالعة إلى صديقاتي وزميلات الدراسة والعمل، وبعد فشلي مع أغلبهن ـ للأمانة فشلت مع الجميع ـ قررت توجي سهامي إلى تلاميذي، فبت أشتري لهم أنواع القصص، وأزودهم بها؛ طالبة منهم مطالعتها، بعد أن أصور لهم أن القراءة عالم فريد وعجيب لا يدخله إلا المحظوظون. فشلت مع أغلبهم أيضا ونجحت في جعل قلة قليلة تصاب بهوس المطالعة، أرجو أن يكون مزمنا فلا يشفون منه.
لم أسأل الكتبي السابق ساعتها عن سبب هذا القرار، تجاوزته وأنا أنظر للأحذية التي أخذت مكان الكتب، التي كنت أقف أمامها طويلا، سواء لاقتنائها، أو للغوص بين عناوينها، وإعادة نحت أسماء كتابها بعيني عندما أكون مفلسة، احتلت الأحذية مكان محمود درويش، ومحمد عابد الجابري، و طه عبد الرحمن، ومظفر النواب، والمهدي المنجرة، و تنحت عبارات أحلام مستغانمي الراقية؛ لتفسح المجال للأحذية الصينية المرقعة. لكني أظنه أجابني ساعتها دون سؤال، هذا زمن الأقدام، وليس الأذهان، هذا زمن الرفعة بالكعوب العالية، وليس المعرفة!
لا أعرف لماذا تذكرت ساعتها النصائح التي كانت تتناقل بين أقراني، وأنا أبحث عن عمل بعد إنهاء دراستي، بحيث كان الحديث عن إيلاء المظهر كل الأهمية: ملابس أنيقة وتلميع الحذاء جيدا، فقد سمعت أن أول ما يلاحظه المشغل في أي طالب عمل هو حذاؤه إن كان ملمعا أم لا، دون أن يتحدثوا ـ أقصد الشباب الباحثين عن عمل ـ عن الإمكانات الذاتية والقدرة على الإقناع وغيرها من المهارات التي يجب أن يتوفر عليها كل باحث عن عمل، فربما هذا ما جعل الكثيرين يهتمون بتلميع أحذيتهم قبل تلميع أفكارهم، ومسح الغبار عن عقولهم، وربما هذا ما جعل بيع الأحذية والملابس تجارة رائجة، وكسد بيع الكتب.
وليس هذا هو الكتبي الوحيد! فقد سبق أن سمعت أحد أصحاب المكتبات الكبيرة يرد على شريكه متذمرا: ” كون درنا غير صناك أحسن لنا من هاد صداع الراس” فهذا الكتبي فكر فيما لو أنه استثمر أمواله في محل للأكل لكان أفضل له، و أربح من استثمارها في مكتبة. والحق إن الرجل كان محقا فيما قال. ففي كل يوم يفتح محل للأطعمة الجاهزة التي لا تجد لنفسك موطئ قدم فيها، والسبب أن الناس لا يفكرون إلا في تغذية بطونهم، أما تغذية العقل بكتاب فتلك “موضة” قديمة.
والدليل: الإحصاءات الصادرة عن اليونيسكو والأمم المتحدة حول القراءة الحرة في الوطن العربي. حيث يتم احتساب معدل القراءة للفرد في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية بالكتاب، فالفرد هناك يقرأ 10 كتب أو أكثر في السنة. لكن عند حساب هذا المعدل عند الفرد العربي يصبح المعيار هو نصف أو ربع صفحة.
ولمن يشك في الأمر فليطلع على الدراسات التي نشرتها الأمم المتحدة حول المطالعة في دول العالم. حيث قالت بأن معدل ما يقرؤه الفرد في كل الوطن العربي من محيطه إلى خليجه هو ربع صفحة سنويا ـ نعم ما قرأته عيناك صحيح، ربع صفحة خلال سنة كاملة ـ في حين يقرأ الأمريكي مثلا 11 كتابا. وإذا أخدنا المدة الزمنية كمعيار، فالفرد في الوطن العربي يقرأ 6 دقائق سنويا مقابل 200 ساعة للفرد في أوروبا و أمريكا.
كاذب من يرجع سبب عدم الإقبال على المطالعة للفقر أو لغلاء الكتب، من خلال بعض الأصدقاء أعرف أن ما ينفقه الناس على ملابسهم “الشيك ” وأحذيتهم والوجبات الخفيفة التي يتناولونها خارج بيوتهم كفيل باقتناء عدة كتب في الشهر الواحد. المسألة ليست مسألة مادية بقدر ما هي مسألة أولويات، نحن في زمن ومجتمع شعاره: أشبع بطنك قبل عقلك، ولمع حذاءك قبل فكرك.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست