ملحوظة

هذه السلسلة من المقالات مشاهدات حقيقية أراها ويراها كل طبيب عيون يوميا في حياتنا العملية، بعضنا يغض الطرف عنها وبعضنا مثلي تؤلمه، فآثرت أن أنقلها لكم لتتبين الحقيقة المرة، وأنبه أنني في هذا المقال لا أقصد الإساءة لفئة معينة من المجتمع أو التحيّز ضدها أو العنصرية تجاهها وإنما أنا فقط ناقل للواقع المرير.

حينما يجتمع الجهل مع المرض!

تخصص طب العيون فيه سمة فريدة تميزه عن أغلب بقية التخصصات الطبية الأخرى، وهي أن طبيب العيون يحتاج تعاون المريض وتفاهمه معه ليستطيع فحصه بصورة صحيحة ليصل إلى تشخيص صحيح في النهاية، طبعا أغلب القراء سيقولون: وما المانع من ذلك؟! المريض يريد مصلحته لذلك سيتعاون بالتأكيد مع طبيبه ليساعده على الشفاء، ولكن المفاجأة هنا أن هناك نوعًا من البشر المرضى لن يساعدوك مطلقا بل سيكونون وبالا عليك وعلى أنفسهم! كيف ذاك؟ يحدث ذلك عندما يُكتب على طبيب العيون أن يعمل في مستشفى حكومي يقع وسط القرى التي يسكنها الفلاحون الأمّيّون الجهلاء!

يدخل إليك كائن عجيب المنظر والجوهر تستشعر في نظراته الجهل المهلك والسذاجة المختلطة بالحذاقة المصطنعة! تسأله: ما شكواك؟ فيقول لك في بلاهة: أشتكي من عيني! فتحاول أيها الطبيب أن تكتم غيظك وتصطنع الهدوء قائلا له: من المؤكد أنك تشتكي من عينك لأنك في عيادة عيون! ولكني أسأل ما الذي تشكوه من عينك؟ فيرد عليك بغضب: قلت لك عيني يا دكتور! اكشف عليها وأنت تعرف! ألستَ طبيبًا؟!

حينها يفقد الطبيب صبره ويضطر للانفعال، فكما هو معلوم لكل طبيب شكوى المريض الدقيقة وتحليلها فيما يسمى بالتاريخ المرضي هو بداية الطريق للتشخيص السليم، ولأن هذا المريض جهول لا يتفهم هذا ويظن أن الطبيب ساحر ومنجّم خارق يعرف الخبايا ويكشف النوايا! تكون النتيجة أن الطبيب بعد محاولات يائسة معه لا يصل إلى التشخيص الصحيح فيضطر أحيانا لإعطاء المريض أيّ علاج – خبط عشوائي! – ليتخلص منه ومن جهله وبلاهته خصوصًا أن الوقت في المستشفى الحكومي ضيق وهناك صفوف طويلة من المرضى مثله تنتظر واقفة على أقدامها في الشمس والحرّ بلا كراسيّ ولا مظلات تقي رؤوسهم!

يأتي فلاح مريض آخر وتضعه على الجهاز للكشف فتعطيه توجيهات لتستطيع الكشف عليه: ثبّت عينيك، فتجده يحرك عينيه يمينًا ويسارًا! انظر أمامك، فتجده ينظر للسقف ويفتح فمه ببلاهة معهودة ومتكررة! انظر يمينا، فتجده ينظر يسارا (لا يعرف الفرق بين اليمين واليسار!) انظر لأسفل، فتجده يسمّر عينيه وكأنه تمثال فرعوني! لا يسمع ولا يفهم! حينها تشعر برغبة داخلية عارمة في أن تبطش به وتعطيه أي دواء لتتخلص منه وضميرك حينئذٍ مرتاح حيث يقول ضميرك وقتها: هو من فعل ذلك بنفسه!

إذا كان الرجال منهم جُهَّالا فنساؤهم أجهل وأضلّ! وهنا لا أنسى ذلك الموقف الذي تكرر معي مرتين حين كنت أقيس النظر لامرأة قروية تشتكي من ضعف بصرها وأشير إلى حلقات النظر: في أيّ اتجاه فتحة هذه الحلقة؟ فارتبكت المرأة وقالت باستياء وعامية: (لا.. لا.. أنا ما ليش في الحاجات دي!) وكأنني طلبتُ منها شيئا مخلّا بالآداب العامة! فقلت لها: لا بد أن تساعديني لأعرف نظرك وأصل إلى تشخيص صحيح، فقالت: (لا.. لا أريد.. اكتب لي أي قطرة تريحني وخلاص!) وهمّت مسرعة نحو الباب!

أصعب الفحوصات الخطيرة التي تحتاج تعاونا وفهما من المريض جلسات الليزر حيث يجب على المريض أن يثبت عينه تمامًا وأي حركة حمقاء يرتكبها فقد تكلفه عينه! وحينما يكون المريض جاهلا وأميا ويحتاج تلك الجلسات فلك الله أيها الطبيب المسكين، سوف تحترق أعصابك ويغلي دمك كلما حرك ذلك المريض المأفون عينيه أثناء الجلسة! سوف يؤلمك ضميرك إن حدث ضرر لعينه فتضطر حينها لقذف أبشع الشتائم على هذا الجهول لعله ينتهي ويدرك مصلحته، ولكن لا حياة لمن تنادي، ويشاء المولى عز وجل بعد تلك المغامرة المدمرة لأعصاب الطبيب أن يخرج هذا الجهول سليما بلا أذى بتقدير من الله ورحمة بك أيها الطبيب المسكين!



أكثر الفحوصات التي تعتمد على ذكاء المريض العالي فحص مجال الإبصار وإن لم يكن المريض ذا ذكاء وفطنة فنتيجة ذلك الاختبار تكون باطلة، والويل لك أيها الطبيب إن جاء لك ذلك الفلاح الجهول ليخضع لذلك الفحص فسوف تعيده مرات ومرات لينفد صبرك ويستعر غيظك فتيأس من هذا المريض وتوبخه جزاء لجهله المستشري في كل أنحاء جسده! والمستفزّ حينها أن المريض من شدة جهله وجهالته يظنّ أن العيب فيك أيها الطبيب المسكين وأنك أنت المقصر في حقه أو لا تستطيع إجراء الكشف لفشلك وجهلك! فيبادلك الشجار ويظن أنه صاحب حق عليك!

من عجائب الدنيا أن هؤلاء القرويين الجاهلين يمدّ الله أعمارهم ليعيشوا دهرا طويلا من الجهل والمرض والفقر يعانون ويجلبون المعاناة لمن حولهم حتى يُردوا إلى أرذل العمر لكي لا يعلموا من بعد علم شيئا، تخيل أنهم في صغرهم كانوا جهّالا فما بالك بحالهم في كبرهم؟! تجد أحدهم يتهادى متكئا على أكتاف أبنائه لا يرى ولا يسمع بل لا يفهم ولا يعقل! فلا تدري ما شكواه ولا تفهم ماذا يريد؟ فتحتار أيها الطبيب من حاله ويصيبك العجز تجاهه فلا تستطيع نفعه بشيء ليعود إلى بيته يكابد المرض والعذاب إلى أن يرحمه الله برحمته!

هذه هي النظرة الخارجية لتلك المشكلة الشنيعة مشكلة الجهل المستشري في وطننا والأمية التي تجتث الأمل فينا، أما النظرة الباطنية فهي تساؤلك أيها الطبيب: كيف وصل هؤلاء الفلاحون لهذا الحال المزري؟ ومن المتسبب في وصولهم لتلك الحالة الميؤوس منها؟ ومن المستفيد من أن يكون المواطن بكل هذا الجهل والسذاجة والبلاهة؟! هي تساؤلات تحتاج إجابتك أيها القارئ.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد