ماذا لو أتيحَت لنا الفرصة لاكتشاف ذواتنا من خلال فرصة واقعية فيزيائية متحققة نلتقي فيها بأنفسنا؟ لا شكّ أنها تجربة مثيرة. لطالَما تمنّينا أن نكتشف ذواتنا ونتعرّف عليها أكثر. أن نصلَ إلى الوعي الأعلى.
ولكن؛ هل قد نصطدم حينها بذلك الجانب المظلم من ذواتنا؟
ماذا لو كنا نحن “الجانب المظلم” من ذواتنا؟!
الفيلم المثير “الترابط Coherence” يبحث إجابات هذه الأسئلة المخيفة من خلال معالجة فلسفية/ نفسية لأطروحة فيزيائية، جرى استعراضها خلال الفيلم، تحت مسمّى “فكّ الترابط” تطبيقًا على أطروحة “قطّة شرودينجر”.
الأطروحة الفيزيائية تفترض تصوّرًا مختلفًا للواقع وتحقّقه. لو أن لدينا قطّة وسُمًا قاتلاً داخل صندوق مغلق، وفقًا للفيزياء الكلاسيكية نحن أمام واقع واحد تتساوى فيه نسبة حياة القطّة إلى وفاتها بالتناصف (50% – 50%) أي أنها حقيقة واحدة فقط = إما أن القطّ حيٌ وإما أنه ميت. ولكن وفقًا للنظرية الكمّية فإن الأمر يتمّ تناوله بشكل مختلف. سيكون أمامنا واقعان متوازيان، واقع تحيا فيه القطّة، وواقع تموت فيه بتناولها السُمّ، واقعان يحدث كلٌ منهما بطريقة منفصلة. يظلّ هذان الواقعان متوازييْن حتى تلك اللحظة التي نُوجِد فيها نقطة تصادم بينهما تجعل أحد الواقِعَين يفرض نفسَه على الآخر. عندما نفتح الصندوق سنكتشف أيهما الذي فرض نفسه على الآخر.
سيناريو مبنيٌ على نظرية فيزيائية بمعالَجة فلسفية ونفسية، تمّت كتابته بحبكة معقّدة، وتنفيذه بإمكانات بسيطة جدًا في موقع تصوير وحيد (البيت بمكوناته = المطبخ والردهة والحمّام وكوريدور غرف النوم ومدخل البيت،لا أكثر).
ثمانية أصدقاء (4 رجال و4 نساء) يلتقون للعشاء في بيت أحدهم، ويتصادف هذا مع مرور مذنّب فوق المدينة. يتسبّب مرور هذا المذنّب في إيجاد نقطة تصادم بين عدد غير معروف من العوالم المتوازية (كتطبيق لأطروحة الترابط على نظرية قطّة شرودينجر)، تمثل نقطة التصادم هذه منطقة حالكة السواد تتوسّط عددًا لا نهائيًا من تكرارات لنفس البيت ونفس الأشخاص، فقط لا غير. ليواجه كل شخصٍ نظيره أو نظائره من عوالِم أخرى إذا فكّر في العبور من البيت الذي يوجد فيه إلى أحد البيوت الأخرى (خوفًا أو فضولاً أو احتياجًا..) أو لأيّ سببٍ كان. هناك مَن يضطر إلى قتل نظيره في العالم الموازي الآخر الأكثر سعادةً واستقرارًا، كي يحلّ محلّه هناك. لحظتها يكتشف فقط أنه هو الجانب المظلم من شخصيته، وربما يتعرّض لجانب أكثر إظلامًا يطارده في لحظة تالية.
ساهمت تقنية التصوير بالكاميرات المحمولة في تكريس حالة الواقعية الشديدة التي أبدَعها الممثلون الثمانية، والحوار التلقائي المدروس كلمة بكلمة، والموسيقى المؤثرة نفسيًا في تكريس حالة الصراع النفسي وتجليّاتها لأغلب الشخصيات.
المشهد الأكثر إرعابًا، بموسيقاه الأروع على الإطلاق، هو لحظة الاختيار التي تخرج فيها بطلة الفيلم “إيما” من واقعها الذي سَئِمت فيه من خيانة زوجها ومشاحنات الأصدقاء، وتمرّ على عددٍ من النماذج المناظرة للبيت في أكثر من واقع مختلف. لتختار لنفسها واقعًا جديدًا تستقر فيه قبل اكتمال عبور المذنّب واختفاء فجوة التصادم المظلمة. يستقر اختيارها على واقع لم تخرج فيه الشخصيات من البيت ولا توجد بينهم إلا المودّة والفكاهة، ويخلو من المنغّصات التي جعلتها تهرب من واقعها، فتفتعل حادثة بالخارج يخرجون على إثرها من المنزل فتقوم بقتل نظيرتها “إيما” في هذا الواقع بلا رحمة وتحلّ محلّها.
كانت إيما تخشى في بداية الأحداث وفهمِها لما يجري، أن تضطر لمقابلة الجانب المظلم من شخصيتها متجسدًا في “إيما” من واقع آخر. اتضح أن “إيما” التي بدأنا وأكملنا معها الأحداث هي الجانب المظلم من كل “إيما” في جميع العوالم!
عندما تواجه ذاتك، قد تكتشف أنّك تواجه أبشعَ ما في هذه الحياة على الإطلاق.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست