حينما نجحت من السادس الإعدادي وقبلت في كلية القانون كنت معتقدًا تمامًا أن الكلية مكان للثقافة، والمثالية، والطوبائية، وكنت واعيًا لذلك بكل دوجماطيقية، وكنت أعتقد أيضًا أن الطلبة جميعهم واعون لما يدرسون. وهو القانون، وكما ينسب لسقراط؛ احترم القانون وإن كان ظالمًا.

كان في وقتها مجموعة على النت أضفت فيها بعد أن أعلن أن التعليم سيكون إلكترونيًا، وكنا نتكلّم في حينها كطلبة عن أمور عامة، وفجأةً اتهموني بالتحرش والتجاوز؛ فغادرت فورًا واعتذرت من البنت إذا كنت متحرشًا لها بالفعل، وهي قالت إنها تعرف أن هذا اتهام اتهمت به واعتذرت إلي.

في وقتها أيضًا كان هناك مجموعة على «فيسبوك» للنشر، وأضحت حينها مشكلة الدراسة الإلكترونية وجائحة كورونا فيروس، ونشرت منشور كالعادة عبرت فيه عن رأيي، وكانت التعليقات كلها متنمرة علي وبعيدة عن الموضوع؛ فغادرت فورًا أيضًا.

لا أخفيكم أني حينها كنت لا زلت قليلًا أعتقد أن الجامعة مكان محترم، وما رأيته كان عبارة عن حالات شاذة، وحينها حدثت مشكلة بالمجموعة. حيث انتهت أن قام أحد الطلبة بتهديد الآخر أن يطالبه عشائريًا. والمفارقة المضحكة أنا كنا جميعًا طلبة قانون، وعلى أساس أن العشيرة مجموعة بدائية ويجب أن نقننها.

حينها وفي هذه اللحظة تمامًا زال أعتقادي ذاك. إن الناس كالناس والأيام واحدة، ولو كان الإنسان على القمر هو إنسان بطبيعة الحال، والجامعة مكان مثل المقهى أو أدنى، والمقهى مكان فيه الجميع إذ تجد فيه المثقف بشكل قليل، وضعيف الخلق واضح وضوح السطوع.

ماذا تفعل؟ لا تغتر كثيرًا، وكن كما أنت. انغمر في الوحدة، والعزلة، والحزن لأنك موجود، وكما يقول المعري ما مضمونه: حياتي جناها أبي علي. كن كما أنت، كما كنت أنت.

من الطبيعي جدًا أن تقوى العشيرة، ويقوم أحدهم بالتهديد فيها، وذلك بسبب الانحطاط السياسي في هذا البلد من ناحية، ومن ناحية الانتماء البدائي لتجمعات كهذه.

يجب أن نعلم أنه حينما تضعف الدولة تلجأ الناس للعشيرة، وحينما يضعف الطب تلجأ الناس للسحرة؛ لأن السحر ملاذ المفتقرين للطب.

أحد جيراني كان قد أخبرني أن ولده مريض، وكل الأطباء لم يشخصوه؛ فقال لي: الطبيب لا يعرف ما هو الدايس والمشرّب سحر! إذًا هذا، أي ولده دايس ومشرب وتابع.

علمًا أن الطب وصل مرحلة أن يحيي الموتى بالاستنساخ!

لكن الحجي لأنه لا يرى هذا التقدم الطبي في العراق؛ فلجأ إلى الظن بأن تشخيص ولده بأنه مشرب، وقد طلق زوجة ابنه المسكينة جراء ذلك. بيد أنها «شربته سحر».

كذلك العشيرة. إننا لا نرى للمحكمة عندنا أي سطوة، وأصبحت المحكمة بمثابة دائرة زواج وطلاق؛ أما الجنوح والجنايات فتفض عشائريًا وحزبيًا؛ فيلجأ حينها الإنسان بالتهديد بأنه ابن فلان وأنه من عشيرة مخيفة.

أين الكارثة؟ تكمن الكارثة في الطبيب حينما يراجع الساحر. والقانوني الذي يدافع عن عشيرته. وهذه كارثة بدأت ألحظها كثيرًا.

إن حجة الطبيب الذي يدافع عن السحرة هي الدين. فإذا سألته عن ذلك قال لك: السحر موجود في القرآن، وهذا شيء طيّب، ولكن الرجوع للعقليات والاعتماد عليها بدلًا عن التجريبيات بتزمت هو شيء ليس بطيِّب.

البعض من القانونيين الذين يدافعون عن عشائرهم، ويفضلونها على القانون تكون حجتهم هي: أبي وحسبي ونسبي، وهؤلاء أفتخر بهم، وبنفس الوقت؛ فحال البلد متدهور ويجب اللجوء إلى العشيرة، ولكن هذا فيه جانب تشجيعي للإرهاب العشائري.

بالنسبة للجامعة فهي لا تضفي على الشخصية شيئًا؛ فمشكلتنا تكمن في أننا ننظر للجامعة وأنها وسيلة سنحصل من خلالها على التعيين والراتب. إننا أصبحنا نحبذ التعيين على التعليم، وهذه كارثة عظيمة أيضًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد