«هكذا أراد لهم القدر أو أرادوا هم لأنفسهم، للملتحقين بالظل على المسرح وراء نجوم الفن، في الغربة، في الشيخوخة، في قبضة الفقر، في مكتب منزوٍ» هكذا بدأ العظيم يحيى حقي مقدمة كتابه الرائع «ناس في الظل».
تذكرت هذه المقدمة وأنا أتابع وفاة العقيد الخالد الذكر بإذن الله علي ولد محمد فال فقيد موريتانيا الراحل وهو منزو في قرية صغيرة في الشمال الموريتاني تسمى تيرس زمور قرب مدينة الزويرات، بعيدًا عن صخب المدينة وأطماعها يرعى الإبل وهو الرئيس الأسبق لهذه الجمهورية الإسلامية وأهم رجل بها الذي ترك منصبه بمحض إرادته لرئيس يختاره الشعب دون أن يجعل نفسه حتى أحد هذه الخيارات! وكأن الرجل كما أعطانا درسًا في حياته عن نكران الذات والخير المجرد والتواضع أراد أن يعطينا نفس الدرس وهو على فراش الموت!
يوم الأربعاء الموافق الثالث من مايو كتبت مقالًا عن العقيد علي ولد محمد فال وأرسلته للجريدة وتوفي العقيد يوم الجمعة الموافق الخامس من مايو ولم أكن أعلم وتم نشر المقال يوم الأحد السابع من مايو، أي إنه توفي بعد يومين من كتابة المقال وقبل يومين من نشره!
كتبت مقالًا أسأل أين هو ولم أكن أتخيل أني سوف أكتب مقالًا بعدها بأيام أنعيه فيه!
بعد نشر المقال أرسل لي عدد ليس بقليل من الموريتانيين ليعزوني في الفقيد وقد كان لي الشرف بل شديد الشرف أن يعتبروني واحدًا منهم وأن أأخذ العزاء في العقيد الراحل.
في جنازة رسمية وعسكرية مهيبة يتقدمها ابن عمه الرئيس ولد عبد العزيز رغم العداوة الشديدة بينهما شيع جثمان الفقيد إلى مثواه الأخير وقد قرأت في عيني ولد عبد العزيز الحزن الشديد على العقيد الراحل وأنه لم يكن ادعاءً ولكنه هذا هو أسمى معاني الإنسانية أن يحترمك ويقدرك حتى أعداؤك.
ولكنهم دفنوه سريعًا جدًا قبل أن تتحول جنازته إلى جنازة شعبية أسطورية ودولية قبل أن يأتي حتى ولداه من الخارج، قبل أن يأتي أي أحد من أصدقائه الدوليين الذين أسرهم صدقه الشديد فقد كان من الأصدقاء المقربين للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، فخافوا حتى من موته كما خاف الإعلام العربي دومًا من انتشار قصته وما فعله وتخليه عن السلطة!
الخلوق المتواضع هكذا وصف إعلام محمد ولد عبد العزيز رئيس الجمهورية الحالي لدولة موريتانيا العقيد الراحل وهو من كان أشد معارضيه رغم أنهم أولاد عمومة! الإعلام الذي طالما خرجت منه الإشاعات الكاذبة ضد العقيد الراحل.
العقيد الراحل أو أسد الصحراء كما يلقبه كثير من الموريتانيين نسبة لمشاركته في حرب الصحراء في أواخر سبعينيات القرن الماضي بين موريتانيا وجبهة البوليساريو، وهي الحرب التي أظهر فيها شجاعة فائقة كان رجل الميعاد بالنسبة لموريتانيا فهو من أطاح بحكم دام أكثر من عشرين عامًا للرئيس الأسبق معاوية ولد طايع إثر انقلاب ناجح، وهو نفسه الذي أنقذ نفس الرئيس من انقلاب عسكري قبلها بعام واحد! لدرجة أن معاوية ولد طايع وهو يقدم واجب العزاء في الملك فهد ملك السعودية الراحل وعندما علم بالانقلاب سأل وماذا فعل الانقلابيون مع ولد فال هل قتلوه؟! وعندما علم أن العقيد ولد فال هو نفسه قائد الانقلاب هبط بطائرته الرئاسية في النيجر ووجه خطابه الشهير عبر الإذاعة وقال «احذر من عدوك مرة ومن صديقك ألف مرة» وكأنه يطلب منه أن يكون وفيًا له خائنًا لوطنه!
ارقدْ بسلام أيها العقيد ارقد بعزتك، بكرامتك، بشرفك العسكري، واترك لنا البكاء عليك ورثاءك.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست