لن يكون هذا إلا نحوًا من حديث النفس للنفس عن شخص ممتاز، رجل عظيم، قاس قوي الإرادة قبل كل شيء، له ذكاء نادر، يقظ دقيق قلق، يخفي من وراء الآراء المطلقة والأحكام الصارمة، لا أدري أي شك في نفسه، وأي شعور شديد المرارة عظيم الشرف كان يُثار في نفسه يأسًا من إرضائها.

لم يكن يرى فى التاريخ والأدب إلا نوعًا من المسائل الرياضية، أدق وألطف من الرياضة المألوفة، لم يستطع إلا قليل من الناس أن يفترضوا وجودها، شخص كثيرًا ما حدثنا عن إعمال العقل.

رجل متعمق على هذا النحو، بل أشد تعمقًا في أكبر الظن مما اعتقد، يؤجل الابتهاج بالفوز، ويخلق لنفسه المصاعب، ويشفق من سلوك أقصر الطرق. لم يحتقر شيئًا قط كما احتقر الشهرة، وهذا المجد الذي يستطيع الكاتب أن يسبغه على نفسه في خفه معروفة، وكان يسخر من هؤلاء الذين يحكِّمون في إنتاجهم الفني الرأي العام أو السلطان المقرر أو المنافع التجارية، كما المؤمن الحق لا يحفل إلا بحكم ربه الذي لا يمكن الاحتيال عليه بالتلفيق والتصنع.

كذلك أقام ثابتًا مستقرًا لا يخضع إلا للفكرة المطلقة التي كونها لنفسه، ولم يكن يريد شيئًا يستخلصه من نفسه حتى يجد له أثقل الجهد ويسلك له أصعب الطرق.

على نحو من هذا كانت رفقه طه حُسين مع أبي العلاء في سجنه، وعلى هذا النحو كانت رفقتي مع صاحبنا طه حُسين كما تعرفت إليه في «الأيام» منذ أكثر من عامين، وأظن أنني ما زلت في حاجة مُلحة لا تنتهي للبحث عنه وراء سطوره وبين أدبه وترجماته.

وليس الدافع وراء ذلك البحث أن أترجم له، فلست أهلًا لذلك على أي حال، ولو كان البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فذ بقدر صاحبنا، والكشف عن مواهبه وأسرار عبقريته من ظروف حياته التي عاشها، والأحداث التي واجهها في محيطه، والأثر الذي خلفه في جيله، هي المسالك المتعارف عليها لكتابة السير والتراجم؛ فلست ممن يعنيهم مولده ولا حبه ولا شقاؤه، لأني لا أجد في هذا المُقنع الذي يتبين به ما ميز ويميز صاحبنا تميزًا عميقًا من الناس.

على أن ما يعنيني من حياة صاحبنا شيء آخر غير هذه الأعراض التي طرأت له، فليست حياة رجل من الناس آخر الأمر سوى مصادفات يتبع بعضها بعضًا، واستجابات دقيقة أو غير دقيقة لتلك المصادفات، ولكن جل ما يهمني حين أغوص إلى طيات كلماته هو.. ما كان يدور في نفسه وذهنه حين يملي تلك الكلمات والأسطر.

وحين وجدت صاحبنا يجلس في آخر ساعة من ساعات النهار ليوم من أيام الصيف الفرنسي يفكر في رفيقه أبي العلاء.. «كانت معاني تضرب في نفسي، وتلح أن تجري على لساني وأن يثبتها قلم صاحبي في الصحف، ولكني كنت أمانعها أشد الممانعة وآبى عليها كل الإباء، وأرفض أعنف الرفض أن أطلب إلى صاحبي إعداد القرطاس والقلم، وأن يستعد للكتابة على حين أستعد أنا للإملاء».

لم أر مهربًا من أن أوازن بينه وبين رفيقه أبي العلاء الذي كنت أسمع اسمه وأجهل أمر لزومياته التي لزمها في شعره، فشدة الرجل على نفسه إلى غايات الشدة، مع شكه في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، تشبه صفات صاحبنا التي ألفتها في أيامه.

وزهد أبي العلاء في الشهرة والثراء وانصرافه عن الحمد الكاذب ومجاورة السلطان، يذكرني بقرار حكومة صدقي حينما وقع الانقلاب الدستوري عام 1930 بإبعاد صاحبنا عن عمادة كلية الآداب ونقله إلى وظيفة إدارية في وزارة الأوقاف.

ثم إن ارتياب أبو العلاء بأحكام الناس في فنه، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة، كل تلك الخصال التي يحدثنا بها طه حسين عن رفيق سجنه، يحمل إلى ذهني ما تلقاه صاحبنا من طعن في شخصه بعدما أثار كتابه «الشعر الجاهلي» جدلًا واسعًا في عشرينات القرن الماضي.

ولما تحدث صاحبنا عما بذهنه:

«وبينما كانت زوجتي وأبنائي ينظرون إلى البحر والسماء وإلى المناظر المختلفة التي كانت تطلق ألسنتهم بالإعجاب، كنت أحس هذه الطبيعة التي لا أراها ولا أتصورها، تدنو مني قليلًا قليلًا، ثم تنفذ إلى نفسي، وتملأ قلبي أملًا وحبًا للحياة، وبينما كانوا يتحدثون عما يرون، كنت أنا أدير في نفسي حوارًا بيني وبين أبي العلاء، وكنت أحدثه بأن تشاؤمه لا مصدر له إلا العجز عن ذوق الحياة والقصور عن الشعور بما فيها من جمال وبهجة، وكان أبو العلاء يقول لي إنك ترضى عما لا تعرف وتعجب بما لا ترى، وكنت أقول له: إن لم أعرف كل شيء فقد عرفت بعض الأشياء، وإن لم أر الطبيعة فقد أحسستها».

وحين خاطب رفيقه:

«وكنت أتهمه -أي أبا العلاء- بالإسراف على نفسه، وأزعم له أنه يصور لنفسه أمر الحياة على غير وجهه، ويظن بلذات الحياة أكثر وأكبر مما ينبغي أن يظن بها، وأن المبصرين الذين يرون ما لا نرى، ويستمتعون من جمال الدنيا بما لا نستمتع به، إنما يأخذون من أسباب هذا كله بأوهنها وأضعفها، وأنهم لو حققوا ما يرون، لما وجدوا بين ما يرتسم في نفوسهم من الصور وبين الحقائق الواقعة إلا أيسر الأسباب وأبعدها عن الصدق والمطابقة، فحقائق الأشياء وجمال الطبيعة أبعد منالًا مما يظن المبصرون وغير المبصرين».

أتذكر حديثًا له في الإذاعة يُخبرنا أنه رغم حياته في الظُلمة إلا أنه يتذكر الضوء، ولكنه لا يتذكر الألوان، وبأنه يعتقد أن الأبيض هو غياب كل لون، وأن الأسود هو الألوان جميعها وقد تداخلت.

وأتفهم أنه ورغم حياتي في النور إلا أنني لم أعرف الألوان كما عرفها طه حُسين، بل إني لم أشعر كوني مُبصرًا إلا بعدما تعرفت على هذا الرجل الأعمى، وما أجدني عرفته بعد، وليتني أستطيع أن أنفذ إلى ذهنه ولكن يبدو أنني لا أستطيع.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

أدب
عرض التعليقات
تحميل المزيد