ليست الجاهلية حقبة قد مضت من الزمن، ولكنها مجموعة قيم ومعتقدات مقطوعة الصلة بوحي السماء، جاءت الرسل لتبديلها وإحلال قيم الإنسان المستخلف من الله في الأرض، ولذلك يشير القرآن دوماً إلى جاهليّة ما قبل الإسلام بأنّها الجاهليّة الأولى، وواحدة من تلك القيم الجاهلية هي ثقافة الوصمة ، تلك الشهوة لوصف الإنسان بما ينتقص به من قدره، وذلك القلم الأحمر الذي نجرّد به من نشاء من النخبة من طهر الإنسان ونفيهم إلى ساحة المطرودين!

 

 

الوصمة التي ألقاها يوماً أبو ذرٍ على بلال – رضي الله عنهما – يوم قال له: (يا ابن السوداء)! ليتغيّر وجه النبي موجهاً له: (أعيرته بأمّه؟! .. إنك امرؤ فيك جاهليّة)، فقد جاء الإسلام ليستبدل بقيمة “الوصمة” ويحل مكانها قيمة “رحماء بينهم”.

إنها إذاً ثقافة الطهر الكاذب، والكمال المزعوم، كملائكة بيضاء نسير في الطرقات، بأثواب القديسين نرمق الآخرين، ندنس كل طهر حتى لا يبقى طاهر غيرنا، هيهات، بل حتى نخفي عيوبنا بعيوب الناس.

 

تلك الوصمة التي أضحت شبحاً خلقناه ثم بات يطاردنا في كل زاوية، حتى أصبح لدى كل أحدٍ منا سر، ليتردد في جوفه كل يوم سؤال: (كيف لو عرف الناس أمري؟!، ماذا سيقولون عني؟!) ؛  والنتيجة هي أن يذهب هو إلى جحيم العزلة، أو ليذهب المجتمع في نظره إلى الجحيم! فبيئة الوصمة إذاً هي تلك البيئة المرضية التي نُخفي فيها العيوب بدلاً من أن نصلحها، فلا غرابة أن كل مُصلحٍ مر على هذه الأرض ما مل أن يحارب ثقافة الوصمة.

 

إن مجتمعاتنا العربية تقتات على الوصمة، توصم باللون بين أسود وأبيض، وبالجنسية فالمصري في الخليج وصمة، والخليجي في مصر وصمة، وتوصم بمؤهلك الدراسي، وتوصم حتى ببلدتك بين منوفي وصعيدي، وتوصم بالوظيفة، وتوصم بالمرض.

 

مجتمع حبس فيه أبٌ ابنته المصابة بالجذام حتى تآكلت أطرافها خشية أن يواجه الناس بها فتنالهم الوصمة!

 

والعجيب أنه مهما كان جبل الطهر الذي أنت عليه فإن الوصمة قادرة على أن تسقطك عنه بلا تردد، والأغرب أنه متى نالتك الوصمة فلا سبيل لرفعها عنك وإن كنت من الأطهار فعلاً، فثقافتنا هي ثقافة “اللي اتكسر ميتصلّحش” فصرنا نسير بين مكسور ومخدوش.!

 

فإن كانت قيمة الإسلام أن “التوبة تجب ما قبلها” ففي مجتمع الوصمة نجد أن الوصمة هي التي تجب ما قبلها.!

 

مجتمع الوصمة مجتمع خانق يدفع أفراده إلى الهروب منه إلى مجتمعات أخرى ليست بأحسن حالاً منه، فإمّا تكوين مجتمع ظل يعيش على أطراف المجتمع نفسه ويعيش فيه الموصومون بنفس الوصمة، وإمّا حلقات الفوران والتفريغ النفسي في “الديسكو” أو حلقة الزار على اختلاف الثقافات، ففيها لا يجد من يسأله عن شيء، يقبله بنفسه لا غير.

 

على النقيض من هذا المجتمع نرى مجتمع صحّي يمكن تسميته بمجتمع التعافي، ذلك المجتمع الذي نطرح فيه مشاكلنا وعيوبنا بحريّة لنتكاتف مع صاحبها لتخطّيها، ذلك المجتمع الذي عاش فيه أبو محجن الثقفي وهو مدمن خمر، لكنه يجاهد نفسه على تركها ولم ير ممن حوله وصمة بها ولا نبذاً ومعاداة، ولذلك لا عجب أن كان هو نفسه أوّل من اكتتب للخروج في معركة القادسيّة، لم يصبح إذا عضواً فاسداً مهملاً ينعزل عن الناس الذين يرمقونه بنظرات الطرد إلى الظل.

 

لا يمكن أن نتعامل مع إخوتنا وأبنائنا بمنطق البستاني الذي يقصف كل فرع يميل إلى الفساد، فكل فردٍ منّا هو ثروتنا التي نواجه بها الحاضر ونعدّها للمستقبل.

 

في مقابل مجتمع الوصمة نجد مجتمع المؤمنين حقاً، مجتمع المعافاة، الذي يمنح الحب والقبول، ويمد يداً طيبة لتخفف الجراح، وتسكّن الآلام، تعالج الخطأ بلا تعيير، تقبل الضعف، والإشكال هنا أننا دوماً نظن أن قبول المخطئ يستلزم بالتبعيّة قبول الخطأ، وهو وهم غير لازم!

 

إن قبول الآخر هو أحد ركائز الرسالات فكما هو منسوب للمسيح (وكما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا) وكما يقول النبي أيضاُ: (وأن تأت إلى الناس بمثل الذي تحب أن يأتوا به إليك).

 

مجتمع الوصمة ينظر إلى صاحب الخطأ في دائرة خطئه، ومجتمع المعافاة ينظر إلى خطئه في دائرة إنسانيته، فالإنسان هنا قيمة كلية لا يمكن محوها أمام الخطأ مهما كبر، بذلك يمكن للمخطئ أن يستمد قوته لعبور آلامه متكئاً على أكتاف من حوله، الحب الذي نمنحه لبعضنا البعض هو قارب نجاتنا في بحر الحياة.

كلمة أخيرة أختم بها، لا تدينوا على الأرض كي لا يدينكم الذي في السماء! لسنا قضاة هنا على الأرض فالديّان في السماء، نحن نستحق أن نتقبل أنفسنا، بضعفنا وقوتنا، فجمال اللوحة في تداخل ألوانها، نحن لسنا أقوياء بمفردنا، بمجموعنا نحن نتشارك قوة الله التي تعمل فينا، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «يد الله مع الجماعة».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد