الإنسان بطبعه يتكيف مع البيئة المحيطة حوله بصورة تلقائية ، و السبب أنه خلال مراحل نشأته تتكون معارفه و أفكاره من جراء ما يكتسبه و ما يترسخ في ذهنه مما يحيط به من سلوكيات و معتقدات و أفكار منتشرة ، وهنا يتولد لدى ذلك الشخص سلوكيات في الوسط الذي يعيش فيه ، وهذه السلوكيات منشؤها المفاهيم و التي بدورها قد تكون مفاهيم صحيحة أو خاطئة.
المفاهيم هي التي تنشأ من جرائها السلوكيات ، وهي تختلف عن الأفكار ، فالأفكار تعرف على أنها الحكم على الواقع ، فإن أدرك معنى هذا الفكر و جرى التصديق به أي مطابقته للواقع أصبح هذا الفكر مسيرا للسلوك المتعلق بمعنى هذا الفكر أي أنه إن أدركه و صدق به أصبح هذا الفكر مفهوما ، أما إن لم يجر التصديق به ولم يدركه تصبح هذا الفكرة مجرد معلومات مختزنة في الدماغ لا تؤثر في السلوك ، أما إن كان ذلك الفكر ليس له واقع ينطبق عليه ولا يستطيع أن يتصور له واقع فإنه يصبح خيالاً وأوهام وخرافات.
والمفاهيم بدورها قد تكون مفاهيم صحيحة ومفاهيم خاطئة
فالمفاهيم الصحيحة تنقسم الى قسمين : مفاهيم صحيحة تؤثر في السلوك : كما قلنا سابقا هي فكرة جرى إدراك مدلولها و التصديق بها مثال على ذالك : احترام من هو أكبر منك فهي مفهوم صحيح و ونجدها تؤثر في السلوك. مفاهيم صحيحة لا تؤثر في السلوك : نفس المثال السابق نجد أن مفهوم احترام الغير صحيحة و لكنها لا تؤثر في السلوك فنجد احدهم لا يحترم أي كبير رغم انه يعرف أن هذا المفهوم صحيح وهنا نعود للتعريف السابق ونقول أن هذا المفهوم عند هذا الشخص هو مجرد فكرة لأنه لم يدرك حقيقتها ولم يصدق بها.
أما المفاهيم الخاطئة فهي أيضا بدورها تنقسم الى قسمين:
مفاهيم خاطئ لا تؤثر في السلوك : مثالاً شرب الخمر فهو يؤثر في الجسم و يذهب العقل كما أنه محرم فإن تم إدراك هذه الأمور و التصديق بها تصبح مفهوما و تؤثر في السلوك. مفاهيم خاطئة تؤثر في السلوك : نفس المثال السابق فإننا نجد العديد من الناس يشربون الخمر رغم أنهم يدركون أنه ضارة وأنها حرام، إلا أن هذه الفكرة أصبحت مجرد معلومات في العقل ليس لها أي تأثير.
إذا فهذه هي المفاهيم ، و سلوك الأفراد يتحدد بحسب المفاهيم المكونة عند الفرد لهذا ما نلاحظه في هذا المجتمع من انحرافات و تغيرات و سلوكيات غريبة تبدو عند القلة أنها شاذة في الحين نجدها عند العامة أنها سلوكيات عادية هي ناتجة عن تغير المفاهيم ، ومنه فإن أغلبية الناس اليوم تكيف سلوكها في هذا المجتمع بحسب المفاهيم السائدة و لا تهتم إن كانت هذه المفاهيم صحيحة أو خاطئة ، المهم أنها مفاهيم منتشرة بكثرة، و القلة فقط من تدرك حقيقتها فنجدها تخالف هذه المفاهيم ومنه تخالف سلوك القطيع .
إن كل ما نلاحظه عند هذه المجتمعات من تغيرات و انحرافات و تراجع، ليس معه أي تقدم، إنما منشؤه الأفكار التي جرى الإيمان بها و طاعتها من دون التفكير ولو حتى في مدى صحتها أو خطئها ، إن الذي يحرك الإنسان و يكيفه في المجتمع هو تلك الأفكار المكتسبة من ما يحيط به ، وهذه الأخيرة قد تكون سبب صلاحه كما تقدر أن تكون سبب هلاكه .
فعندما تكون الأفكار المكتسبة صحيحة وليس فيها أي زيغ أو انحراف ، هنا تتكون الطبقة الراقية في المجتمع و التي بدورها لن تتأثر بأي تغيرات محيطة بها ، بل سيكون تأثيرها على البقية أقوى .
وهذه الطبقة الراقية لا يعني أنها أحسن من البقية ، أو أنها تتميز عليها في المال والمسكن والملبس ، لا ، و إنما تتميز عليها من حيث الأفكار التي تحولت إلى مفاهيم و انعكست على سلوكياتهم فجعلتهم مميزين عن البقية وحملتهم مسئولية الأنبياء ، وهي قيادة من لم يتمكن من بلوغ هذا المستوى من التفكير المتميز الذي هو التفكير العملي المتمثل في المفاهيم الصحيحة .
ومنه فإن القوى الحاكمة في أي مجتمعات قد أدركت هذه النقطة وأصبحت تلعب على وترها في كل مرة، فنجدها تفسد الأفكار الجيدة، وتعمل على تسريب الأفكار الفاسدة في المجتمعات ، ومنه ستتغير السلوكيات في المجتمعات ، فنجد بعض الحركات و بعض الدعاة أيضا قد انخدعوا بما يشاهدونه ، فتجدهم ينادون على المنابر و في كل مكان على ضرورة تحسين الأخلاق لأنها هي المشكل الرئيس في هذا المجتمع ، ويصرخون و يلحون ويطالبون ، و لكن لا حياة لم تنادي ، ويموت العديد منهم ولم يحقق أي جزئ مما كان ينادي به.
لهذا فإن التغيير الحقيقي ليس هو تغيير السلوكيات ، فهذا تغيير جزئي فقط و تأثيره سيكون محدودا ، هذا إن كان له تأثير ، ولكن لتعلم أن التغيير الحقيقي هو تغيير الأفكار من أفكار بالية ضعيفة بسيطة إلى أفكار مستنيرة عملية بناءة، و التي بدورها ستتحول إلى مفاهيم ومنه ستنعكس على السلوكيات.
لهذا لابد على الفرد أن يعمل على تكييف سلوكياته مع المفاهيم الصحيحة حتى وإن كانت قليلة في المجتمع ، وإن كانت منعدمة ، المهم أن تكون صحيحة.
ولكن هنا ينشأ سؤال؟ ما هو الشيء أو الضابط الذي يحدد لنا هل هذه المفاهيم صحيحة أم خاطئة ؟ فالعديد من السلوكيات نجدها تختلف من مجتمع إلى أخرى فما هو صحيح في مجتمع ما ليس بالضرورة أن يكون صحيح في مجتمع آخر ! هذا السؤال يقودنا لمسألة أخرى هل الإنسان في حاجة ضرورية إلى نظام يضبط هذه السلوكيات؟
المقال القادم سنحاول مناقشة هذه الأسئلة (يتبع…)
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست