سكانُ عالم الكورونا «شبه المتوقف» يترقبون التطورات، ويجتهدون لمعرفة واتباع الإجراءات الاحترازية لمحاربة الفيروس المستأسد، فتأتي سوائل التعقيم والأقنعة الواقية على رأس قائمة أولويات الكثيرين في وقتنا الحالي، بيد أن مما يسترعي الانتباه هو التشديد على دور الوعي للخروج من هذا المأزق.
وربما علينا أن نكون ممتنين للكورونا إذ تمنحنا مناسبة لطرح الموضوع، فمن يراقب يلحظ أن فيروسات الوعي – سريعة الانتشار هي الأخرى – لا تحوز اهتمامًا كافيًا، ولذا قبل البحث عن خطوات عملية للوقاية منها، لابد عن إدراكٍ لجسامةِ الأمر، يرافقه استعدادٌ ويتبعه بعد ذلك الالتزام.
يتساءل كاتب كتاب القرآن لفجر آخر لماذا كان التعبير القرآني في الآية الكريمة: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»، لماذا «يدمغه»؟ أي يشجه فتكون الشجة في رأسه، ثم يضيف بأن الصراع بين الحق والباطل في الأساس صراع بين فكرتين ميدانه الأول هو الرؤوس، ولذا «إن توجهت قذائف الحق» إلى العقول وزحزح الباطل عنها أصبح أمر الباقي سهلًا.
ولهذا المعنى ألمح الأستاذ الرافعي في أحد مقالاته لمجلة الرسالة في ثلاثينات القرن الماضي بما معناه أن الاحتلال مثلًا لا يكون فقط بوسائل عسكرية، وإنما أيضًا بوسائل علمية أو درامية، وإشارته هذه تنال أهمية كبيرة، بالنظر إلى توقيتها!
فالقدوات تُنتج في السينما والمسرح، جيدة كانت أم سيئة، والمحاكاة أو التقليد يعتبر شكلًا من أشكال التعلم الاجتماعي حسب نظريات علم النفس، والذي يمثل بدوره قاعدة انطلاق أساسية ينبني عليها تصميم المحتوى الإعلامي، طبعًا بجوار التلاعب بالألفاظ وصياغة العبارات «بطريقة تُبعد عنها الشكوك المنطقية».
فكما استخدم العلمُ لصناعة الأسلحة النووية، فقد استغل أيضًا لأغراض السيطرة (المعنوية)، فالعقل والنفس البشرية دُرسا عبر وقت طويل، وقد حُددت نقاط ضعفهما بناء على تلك الدراسات، وعلى أساسها يُصمم مضمون وسائل الاعلام منذ عقود، «بل ليس فقط في تلك الوسائل، وإنما في قطاع التعليم حيث تُصنعُ البدهيات وتُلقنُ المسلمات، وكذلك قطاعات الثقافة وصناعة الترفيه».
كما أن التأثير الضار جراء المحتوى المضلل يطال متلقيه حتمًا بطريقة ما، كما يؤكد راينر ماوسفيلد أستاذ علم النفس في جامعة كيل الألمانية في كتابه: لماذا يصمت القطيع (Warum schweigen die Lämmer)، فهذا التأثير «يشبه ما تشعر به إن جلستَ في قطار تراقب من نافذته قطارًا آخر متوقفًا على رصيف مجاور فإن تحرك ستشعر تلقائيًا، وكأن القطار الذي تجلس أنت فيه يتحرك أيضًا».
ولذا ينصح بعض المتخصصين بتجنب المضمون المقدم عبر وسائل «الإعلام» وعدم التعرض له مطلقًا، ولأن هذا صعبٌ جدًا ونحن بحاجة إلى معرفة ما يجري، فيجب أن نبحث عن جعبة من أدوات النقد، أو ما يمكن أن نسميه كمامات الوعي، يتوفر فيها شرط المرونة بحيث تتطور مع تطور الوسائل «الإعلامية».
فالأخبار مثلًا على ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى الذي يتدفق من خلالها جديران بالشك وسوء الظن أحيانًا، فإن صح أنها ابتكرت من أجل التواصل فيصح أيضًا أنها تُستخدم لتوجيه أولويات الرأي العام وإغراقه بمحتوى مليء بالتوافه أو جادٍ، لكنه مبعثر فتكون النتيجة عقول غير مبالية سلبية أو أخرى مهتمة، لكنها مشتتة مرهقة.
بيد أن السؤال الذي ما زال مطروحًا: من أين يحصل المرء على هذه الكمامة الواقية من فيروسات تخترق الوعي بطريقة لا تراها العين المجردة، ربما لا يزعم أحد أن لديه وصفة سحرية تصلح لكل الحالات، والقدرة على الفرز بين الغث والثمين – إن عُمّمَت – تظل عاملًا يخضع بشكل أو بآخر للاختلافات الفردية، ولكن باختصار يمكن القول: إن
-التعاطي بحذر وعدم إعادة توجيه المضامين الإخبارية أو التحليلية طالما لم يتوفر لنا آليةً تُمَكِّننا من التحقق من صحتها.
-ومراجعة مصادر ما يقدم على أنه حقائق والتفتيش وراءه.
-وتطوير عدسة فحص ذاتية من خلال القراءة والاطلاع المستمر.
من الخطوات العملية لتلافي أن يكون المرء حلقة في سلسلة التهييج والتضليل الجمعي.
ربما لا يكون كلُ ما سبق في جوهره جديدًا بالنسبة لك عزيزي القارئ، لكن في نهاية المطاف «ما يتكرر يتقرر» أي «يصبح مقررًا ومقبولًا» وتلك قاعدة رئيسة يتشكل عبرها تأثير وسائل الإعلام في حالات كثيرة، سواء الإيجابي أو السلبي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست