«سنفرغكم ونعتصركم ثم سنملأكم من أنفسنا» – جورج أورويل

للوهلة الأولی يبدو مصطلح «الوثب البرغوثي» غريبًا، و غير مألوف، و لكنّه استعارة لغوية؛ لتشابه نتائج تجربة علمية مع حال الشعوب العربية: فالبرغوث حشرة من مفصليات الأرجل، تتنقّل بالنطّ والوثب، ويتراوح معدّل قفز هذه الحشرة بين النصف متر والمتر الواحد.

وقد قام عالم نفس أمريكي بتجربة نفسية وسوسيوبيولوجية علی مجموعة براغيث، ووضعها بعبوّة زجاجية أغلقها، وتابعها لثلاثة أيام، فانطلقت البراغيث بحكم الغريزة بالوثب إلی الأعلی؛ رغبة في الخروج، ولكن البعض منها اصطدم بغطاء العبوة فكان حتفه؛ ممّا جعل باقي البراغيث تجعل وثباتها قبل الغطاء بقليل، بعد أن فهمت أن موت بني جنسها كان نتيجة اصطدامهم بالغطاء، وهكذا كانت الحركة روتينية «سيزيفية»، و في ثالث يوم قام العالم بإخراج الناجين من البراغيث إلی حاضنتهم الطبيعية، فلا حواجز ولا سقف يحدّ من حرية قفزاتهم، لكن المفاجأة كانت أن هذه الحشرات ظلّت تثب وتنط بنفس المستوی، أي: قفزة بطول العبوة بـ30 سنتيمتر، وكاستكمال للتجربة، قام العالم بمتابعة هذه البراغيث بعد التناسل؛ فوجد أن صغارها تكسر القاعدة الطبيعية لوثب البرغوث العادية، واكتسبت نوعية الوثب «ما بعد» تجربة العبوة الزجاجية، فالتغيير السلوكي لبراغيث التجربة انتقلت وراثيًا، وليس الغرض من سرد نتائج التجربة البحث عن التفسير السيكولوجي، أو دراسة الظاهرة بيولوجيا، بقدر ما هي تشبيه لحال المجتمعات العربية التي تعرضت إلی تغيّرات سلوكية جمعية، توارثتها الأجيال بعد عقود من حكم «الأوليغاركيات» و«الأوتوقراطيات»، قمعت كل نفس إبداعي أو تحرري، فكل من لامس أسوار النظام كانت نهايته، مثل نهاية البراغيث عند إرتطامها بغطاء العبوة، أمّا باقي الشعب فخضع وخنع وتعوّد علی الأسقف التي تحدّدها الحكومات وأجهزة الدولة؛ لتترسّخ في سيكولوجيته، وتصبح سلوكًا آليًا لا يتغير بتغير الحكومات، وهي ظاهرة مرضية جمعية فريدة.

وقد سعت الحكومات في العالم العربي والعالم الثالث، وبدرجة أقلّ الدول المتقدّمة السيطرة علی الشعوب وتركيعها عبر القمع، ولكن الأخطر أنّها استعملت آليات علمية لبسط سلطانها، وقد تحدّث «نعوم تشومسكي» ـ عالم اللسانيات الأمريكي والمفكّر «الأناركي» المعروف ـ علی وسائل الحكومات في «دمغجة» الشعوب، واستفاضت الصحافية والكاتبة الكندية «نعومي كلاين» في كتابها «عقيدة الصدمة» في تناول أساليب «النيوليبرالية» في اختراق الدول واختلاق المشاكل والكوارث، ثم استغلالها لتمرير سياسات اقتصادية واجتماعية.

الدمغجة والبروباجندا

يعود لفظ «الديماجوجيا» إلی أصول يونانية، وقد ظهر لأول مرّة في ديمقراطية أثينا، وهو مصطلح سياسي يعني عملية التسويق للفكرة بغير حقيقتها، فهي ترتكز علی «السفسطة» لخداع الجماهير بالاستناد إلی مخاوفها وأفكارها المسبقة، واستغلال ميولها وتضليلها بالوعود الكاذبة والشعارات الرنّانة المغلفة بشتّی فنون الكلام وضروبه البلاغية، وقد ذكر «ثوسيديديس» الديماجوجيين أمثال «كليون» في كتاب «الحرب البلوبونيزية»، فاعتبرهم سبب انتكاسة ديمقراطية أثينا، واصفًا الأثينيين بـ«المولعين بالاستماع إلی الخطب» فيقول «أنتم مجرّد ضحايا لمتعة الاستماع التي تستحوذ عليكم، وأشبه بجمهور يجلس أمام قدمي محاضر محترف…».

وتواصل فن الدمغجة في التطوّر عبر التاريخ،  فقد كانت صناعة الأباطرة الرومان، أمثال «يوليوس قيصر»، ثم أخذت الديماجوجيا شكلًا «لاهوتيا» مع الكنيسة القروسطية،  بتحالف القساوسة مع الأباطرة في المجتمعات الإقطاعية؛ لتنخرط الكنيسة في تخدير مشاعر الفلاحين المستعبدين والفقراء المظلومين، لامتصاص نقمتهم وإجهاض روح الثورة فيهم بخرافة أنّ لهم الجنّة وملكوت السماء، وتوزيع «صكوك الغفران» بدعوی التفويض الإلهي، وتحدّث «نيكولا ماكيافيلي» في أثره «الأمير» عن سحر الكلام وفنّ المخاتلة ضمن قاعدته الشهيرة «الغاية تبرّر الوسيلة»، أمّا في العصر الحديث في حقبة الحرب العالمية، ظلّت الدمغجة حجر زاوية في كل الأنظمة، حتّی وإن كانت ذا طابع سلطوي استبدادي، فالعنف وحده لا يضمن طاعة الشعوب، فنظام «هتلر» النازي ارتكز في جانب كبير منه علی الدعاية عبر وزيرها «بول جوزيف».

«جوبلز»، الذي أحدث نظرية «السيطرة علی العقول لتمرير الأجندة السياسية»، مازالت هذه النظرية إلی يوم الناس هذا قبلة أغلب الساسة، ولازالت كلمة جوبلز «اكذب، اكذب، اكذب؛ حتّی يصدّقك الناس…» تكرّر نفسها،  والديماجوجيا ليست حكرًا علی الأنظمة السلطوية، بل إنّها تطورّت وأصبحت تكتسي طابعًا علميًا في دول تتشدّق بالديمقراطية وأسقف سامية من الحريات، فتعمّق عالم اللسانيات والمفكّر الأناركي المعادي للنيوليبرالية نعوم تشومسكي في شرح دور «البروباجندا» في السيطرة علی الشعوب في كتابه «10 استراتيجيات للسيطرة علی الشعوب»، وهو كتاب ارتكز علی وثيقة سرية للغاية، تعود إلی سبعينات للقرن الماضي  «أسلحة صامتة لحروب هادئة»، وفي هذا الأثر، وضعنا تشومسكي إزاء طرق ذكية تعتمدها دوائر النفوذ في العالم عبر وسائل الإعلام المكتوبة أو  المسموعة و المرئية، بغية التلاعب بجموع الناس، وتوجيه سلوكهم والسيطرة علی أفعالهم.

1 استراتيجية الإلهاء

«حافظوا علی اهتمام الرأي العام بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتونًا بمسائل لا أهميّة حقيقية لها». فهذه الاستراتيجية تعتمد بشكل كلي علی وسائل الإعلام لإلهاء الجماهير علی الوصول إلی معلومات حول القضايا الأساسية والمحورية التي تقرّرها النخب و«الأنتلجانسيا» السياسية والاقتصادية،  لذلك شهد المشهد الإعلامي عالميًا غزوًا لبرامج تلفزيون الواقع، وازدهار صناعة أفلام الجنس، ومراهنة الحكومات علی استضافة التظاهرات الرياضية الكبری، مثل ما قامت الطغمة العسكرية في الأرجنتين سنة 1978 باستضافة كأس العالم لكرة القدم، بينما كانت المعتقلات تضجّ بمساجين الرأي لم تسمع أنّاتهم بعد أن غطّت عليها صيحات جماهير المتحمّسين في ملعب «البونمبونيرو».

2 استراتيجية افتعال المشاكل وتقديم الحل

وهي استراتيجية تقوم علی ثلاثية متعاقبة زمنيًا (مشكل ـ تفاعل ـ حل)، من خلال افتعال مشكل يصير حديث الناس، ليندفع المجتمع طالبًا حلًّا لها، فتقوم النخبة بتقديم حلول مبرمجة سلفًا.

3 استراتيجية التدرّج

وهي استراتيجية تقوم علی التدرّج في القيام بإجراءات مؤلمة، وتمريرها عبر جرعات من خلال سياسة مرحلية تستغرق أحيانًا سنوات وعقودًا، والحال أنّها لو قدّمت دفعة واحدة لأحدثت ثورة عند الناس.

4 استراتيجية التأجيل

هي استراتيجية تتلاعب بالوقت، وتنتهج سياسة تعويد الشعب علی قرارات مستقبلية، حتّی يحين وقتها أو  ما يعرف ببالون التجارب، فيعتقد الجمهور بكل سذاجة علی حدّ تعبير تشومسكي «أن كل شيء سيكون أفضل غدًا…».

5 مخاطبة الجمهور علی أنّهم أطفال.

يری «نعوم تشومسكي» أنّه كلّما  كان الهدف تضليل المشاهد، إلّا واعتمد الإعلام لغة صبيانية في الإعلانات والملصقات الإشهارية.

6 مخاطبة العاطفة بدلًا من العقل

وهذه الاستراتيجية تقوم علی نفس فلسفة الدمغجة التي تخاطب المشاعر والعواطف بدل العقل.

7 إغراق الجمهور في الجهل والغباء.

8 تشجيع الجمهورعلی استحسان الرداءة.

9 تحويل مشاعر التمرد إلی الإحساس بالذنب.

10 معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لأنفسهم

عقيدة الصدمة

مصطلح عقيدة الصدمة، وهو مصطلح علمي، وطريقة علاج نفسي، ظهر في خمسينات القرن الماضي، حيث تعاونت وكالة الاستخبارات الأمريكية مع الطبيب النفسي الكندي «ايوين كاميرون»، لاستخدام الصدمات الكهربائية علی أدمغة المرضی النفسيين، وإرجاعهم إلی مستوی إدراكي أشبه بمستوی إدراك الرضيع؛ لإعادة برمجته بمعطيات جديدة في إطار ما أسمي بالصفحة البيضاء أو القيادة النفسية؛ مما يتسبّب في فقدان الذاكرة أو «النكوص السلوكي» و«الفراغ المطلق».

وقد انطلقت الكاتبة الكندية المناهضة للعولمة «نعومي كلاين»  في كتابها «عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوارث»، بمحاورة ضحايا تعرّضوا للعلاج بالصدمات الكهربائية ضمن خطة علاجية توخّاها الطبيب النفسي «أيوين  كامرون» لدحض نظريات «سيغموند فرويد»، لتحّدد الكاتبة مكامن التشابه بين الصدمة النفسية مع الصدمة الاقتصادية لصاحبها «ميلتون فريدمان» رئيس قسم العلوم الاقتصادية بحامعة شيكاغو، التي تخرّج منها مفكرّون ومحافظون جدد ونيوليبراليون، أمثال «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، نشروا عقيدة «ميلتون فريدمان» في كل العالم، ولقّبتهم نعومي كلاين «صبيان شيكاغو»، وتتمثّل هذه العقيدة  في الرأسمالية المستقلّة والحريّة المطلقة للأسواق وانتهاج درب الخصخصة، وإثقال كاهل المواطن بالأداءات والضرائب وخفض الإنفاق الاجتماعي، وفي العلاقة بين صدمة «كاميرون» وصدمة «فريدمان» تقول نعومي كلاين في كتاب عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوارث، «ارتكزت مهمة ميلتون فريدمان كمهمّة كامرون علی حلم العودة إلی تلك الحالة الصحية الطبيعية التي كان التوازن مستتبّا علی نحو كامل بعيدًا عن تدخل الإنسان وإنتاجه أنماطًا مشوّهة كما حلم كاميرون بإعادة ذهن الإنسان إلی حالته النقيّة، كذلك حلم فريدمان بتفكيك نمط المجتمع، وتحويله إلی حالة من الرأسمالية النقيّة من جميع التشويشات الخارجية».

فعقيدة الصدمة تقوم علی استغلال كارثة، سواء كانت انقلابًا أم هجومًا إرهابيًا أم إنهيارًا للسوق أم حربًا أم كارثة طبيعية، لتمرير سياسات اقتصادية يرفضها المواطن في الحالة الطبيعية، فالمخابرات الأمريكية ساندت انقلاب الجنرال العسكري بينوشيه في الشيلي سنة 1973، وبعد أن سحق المعارضة والتحركّات النقابية، تحالف مع 30 خبيرًا اقتصاديا من أبناء وطنه، درسوا في مدرسة شيكاغو، وتشبعّوا بالمبادئ «الفريدمانية»، وأوعز لهم الجنرال المنقلب علی الحكم صياغة برنامج اقتصادي مؤلم، أطنب في التقشّف وتسريح العمال وخفض النفقات العمومية والتشجيع علی الخصخصة والتسريع فيها في ميادين حيوية، كالصحة والتعليم وخفض الأجور والضرائب الجمركية، وكانت نتائج هذا البرنامج كارثية إجتماعيًا واقتصاديًا، بارتفاع المديونية والرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي، وفي العالم العربي كانت بصمة صبيان شيكاغو واضحة عقب اجتياح الولايات المتحدة للعراق   2003 ، ولا غرابة في ذلك، إذا كان وزير الدفاع الأمريكي آنذاك يسمّی «دونالد رامسفيلد» أحد تلاميذ «ميلتون فريدمان» النجباء، فكانت الاستراتيجية العسكرية في علاقة استشرافية وطيدة بالاستراتيجية الاقتصادية المعدّة سلفًا، فتمّ تدمير البنی التحتية وإثارة النعرات الطائفية والإثنية والقومية، والتغاضي عن عمليات النهب والسطو التي بلغت الإرث التاريخي والثقافي لبلاد الرافدين، وهكذا أصبحت صفحة بيضاء بالمعنی السيكولوجي الجمعي، ليقع تركيز سياسات اقتصادية نيو ليبرالية علی البلد الغني طاقيًا، وفي خضم الاحتراب الأهلي، استأثرت شركات «شل» و«بريتيش بيتروليوم» وشركات نفطية عملاقة  بمعظم احتياطات العراق الهائلة من النفط والغاز، دون الحديث عن عقود إعادة الإعمار والاستثمارات.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

10 استراتيجيات للتحكّم في الشعوب "نعوم تشومسكي"
عقيدة الصدمة و رأسمالية الكوارث "نعومي كلاين"
عرض التعليقات
تحميل المزيد