دخل إلى قاعة المحاضرات الواسعة متأخرًا كعادته عن الموعد المحدد، ليتخذ موضعه المعتاد خلف المكتب الفاصل بينه وبين الطلاب، يخيل إليه دومًا أن هذا المكتب هو الدرع الواقي له؛ فلولا وجوده لانهال عليه الطلاب ضربًا، يتحاشى النظر إلى الطلبة لفترة قصيرة ليؤكد لهم عدم اهتمامه بهم، وأنه يؤدي عملًا مطلوبًا منه للترقي في الدرجة العلمية لا أكثر، فلا يعنيه هؤلاء الحمقى في شيء، إنه عمل يؤديه مثل أي عمل آخر يتخذ عليه أجرًا. يسمع ضحكات خافتة والعديد من التعليقات الساخرة على مظهره وعويناته السميكة، يبحث بين ملفات الحاسب عن الموضوع المطلوب، ويقوم بعرضه من خلال شاشات العرض المنتشرة في أرجاء القاعة الواسعة، يبحث في جيب بنطاله عن منديل يجفف به قطرات العرق المتجمعة على جبهته، ويمسك بمكبر الصوت ليبدأ حديثه.
يحاول أن يجذب الانتباه إلى حديثه، ويستخدم بين الحين والآخر مزحة من تلك التي يقرؤها على مواقع التواصل الاجتماعي محاولًا مواكبة طريقة تفكير الطلاب، واكتساب محبتهم، ويبحث بعينه عن تلك النماذج الثابتة، هنالك الفتيات النحيلات الشبيهات بأعواد الثقاب المحروقة المتميزات بلكنة «حاتر، نحم، اتثى»، وموديلات الأزياء بوجوههن متعددة الألوان، في بعض الأحيان تنتابه نوبات من الاختناق إذا ما اقتربت واحدة منهن منه، فهو لا يتحمل رائحة مستحضرات التجميل، خاصةً إن زادت كميتها عن ذلك الحد الذي لا يمكنه من تحديد ملامحهن، ولا ينسى النظر إلى الجالسين في الصفوف الأخيرة، والابتسام لهم بين الحين والآخر ليكسب ودهم، ويتجنب شرهم، فهم المسيطرون على تأمين المحاضرة، وقد يحولونها إلى ساحة قتال إذا ما تجرأ عليهم أحد من هؤلاء الضعفاء، أو كما يطلقون عليهم «الفرافير»، يتبادل أطراف الحديث مع الطلاب المجتهدين الملقبين بـ«الدحيحة»، ولا يكف عن إسكات تلك الأفواه الثرثارة التي تتحدث في كل أمور الحياة عدا موضوع المحاضرة.
تمر الثواني والدقائق في ملل شديد، تتتابع الموضوعات مع مرور الوقت إلى أن يحين وقت أسئلة الطلاب له، يسب رئيس الجامعة وعميد الكلية في ذهنه، وكل من وافق على اقتراح إضافة وقت لأسئلة الطلبة، هل يظنون حقًا أن لهؤلاء الطائشين عقولًا تفكر لتطرح أسئلة؟ يا لهم من مخابيل يجلسون خلف مكاتب فارهة ولا يعرفون شيئًا عن مدى المعاناة التي يتعرض لها في كل مرة بسبب ذلك القرار السخيف. هكذا يحدث نفسه في كل مرة، لعل حديثه إلى نفسه يخفف عنه شيئًا مما يتعرض له في كل مرة.
يسمح بإلقاء الأسئلة داعيًا الله أن يتم الأمر سريعًا، دون أن يجن أو تصيبه ذبحة صدرية، فمن الجيد أن يموت قريبًا من القبر لا أمام مجموعة من الهمج سيحولون خبر وفاته إلى مزحة سخيفة يتداولونها فيما بينهم.
يبدأ أول الحمقى في إلقاء قذيفته، بالطبع هو ذلك الفتى الجالس في الصف الأول، نفس النمط المتكرر عوينات سميكة، وجسد نحيل، شخص لا يصلح لشيء غير العمل في الجامعة سيكون زميله بعد عدة أعوام، يجيب عن السؤال بصورة مستفزة، ويعجل من السائل عبرة لغيره لعله يتجنب بقية الأسئلة، وينجح في الأمر لقد حان الوقت للفرار من أمام هؤلاء الحمقى، إنه لسعيد كخنزير في بركة من الوحل القذر، لا يعرف متى دخلت تلك التعبيرات الساخرة في حياته، لعلها مرارة الأيام تنتج ما يشبه مسكنات الالآم.
أثناء خروجه تستوقفه فتاة لتسأله عن وقت الامتحان النهائي، فيجد الفرصة متاحة ليمارس دور المتحكم في زمام الأمور، وخاصةً بعد استماعه لسلسلة من فقرات التوبيخ التي يتعرض لها من رئيس القسم والمشرف على رسالته، يستعرض قدراته على التمثيل والتصنع ليرسم ملامح ذلك الحمل الوديع طيب القلب، ليخبرها بأن الامتحان سيأتي مناسبًا لكافة الطلاب، فلا داعي للقلق، ويستكمل بالعديد من الجمل والأقوال التي يكررها كل عام لهؤلاء الطلبة قبل أن يراهم العام التالي في نفس الموقف بسبب رسوبهم المتكرر في المادة التي يدرسها لهم، يقسم بأن يأتي لهم بامتحان يجعلهم يخافون النظر إليه مرة أخرى، فهي الفرصة المتاحة له للانتقام.
يخرج مسرعًا خشية أن يستوقفه أحد آخر، وبعدها بلحظات يتذكر مقولة أستاذه القديم:
«الفرق بين الطالب قبل دخوله الجامعة، وبعد خروجه منها، أنه يدخل بغل صغير ويتخرج حمار كبير».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست