فيروس كورونا أظهر شرخا واضحا بين شمال وجنوب القارة الأوروبية، وعدم تكاتف وتعاضد بين الدول الأعضاء، وكشفت عيوب النظام الصحي فى القارة الأوروبية والعالمية، كما سقطت تكتلات عالمية كبرى وقوى عظمى في امتحان الجائحة وبدت دون المستوى في مواجهة التحدي.
عند أول اختبار له منذ نشأته أثبت الاتحاد الأوروبي فشله، وانهيار ضعف مبدأ «التضامن والتعاضد» الذي يشكل أساس الاتحاد، فكيف سيكون هذا الاتحاد القاري بعد هذه الأزمة غير المسبوقة التي تجتاح العالم.
انهيار؟
الكثير من المحللين تحدثوا عن انهيار الاتحاد الأوروبي بعد جائحة كورونا وأيضا مسؤولين، حيث قال رئيس وزراء أسبانيا بيدرو سانشيز إن جائحة فيروس كورونا قد تتسبب في انهيار الاتحاد الأوروبي، إن لم يتم اتخاذ إجراءات أكثر صرامة في التعامل مع الأزمة الحاليّة.
وأضاف سانشيز، في مقال نشره بست لغات أوروبية، في أبرز صحف ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وهولندا، أن الظروف الحاليّة استثنائية وتدعو إلى مواقف ثابتة فـ«إما أن نرتقي إلى مستوى هذا التحدي أو سنفشل كاتحاد».
أكد رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي أن الاتحاد الأوروبي قد ينهار بسبب تلك الجائحة، منتقدا غياب خطة موحدة لمواجهة وباء كورونا، مضيفا: «على أوروبا أن تظهر قدرتها على مواجهة فيروس كورونا لأن إيطاليا تؤدي دورها».
وبحسب ما أوردته وكالة «رويترز»، قالت المتحدثة باسم الحكومة الاسبانية ماريا خيسوس مونتيرو، إن الأوروبيين سيبدأون في فقدان الثقة في الاتحاد الأوروبي إذا لم يعملوا معا في الأزمة، التي قارنتها بالحرب العالمية الثانية.
وردد وزير الزراعة لويس بلاناس تصريحات مماثلة وفقًا للوكالة، لكن كلا المسؤولين قالا أيضًا إنهما متفائلان بأن المزيد من المفاوضات ستؤدي في النهاية إلى نتائج إيجابية.
مساعدات من الصين خارج دول الاتحاد الأوروبي
خيبة أمل عبر عنها الكثير من مسؤولي الاتحاد الأوروبي، بعد ضعف الإجراءات التي تم اتخاذها على المستوى الأوروبي لمواجهة انتشار جائحة كورونا. إجراءات رفضت بموجبها العديد من الدول تقديم مساعدات للدول الأوروبية الأكثر تضررًا من هذه الأزمة، ما اضطرها للتوجه إلى دول أخرى خارج الاتحاد.
عند تملص دول الاتحاد من التزاماتهم، وجدت إيطاليا وإسبانيا، دولًا أخرى تساعدها على غرار الصين وتركيا وروسيا والصومال وكوبا، التي سارعت إلى تقديم إمدادات من المعدات الطبية وأجهزة التنفس لها حتى تساعد في مواجهة هذه الجائحة التي تنتشر بسرعة.
دول الشمال ضد دول الجنوب
بداية تفكك الاتحاد الأوروبي، لم تتلخص في هذه النقطة فقط، فيوجد غيرها الكثير على غرار رفض بعض الدول الأوروبية على رأسها ألمانيا طلب بعض دول الاتحاد الأوروبي، تفعيل ما باتت تعرف بـ«سندات كورونا» التي ستسمح للبلدان الأكثر تأثرًا بفيروس كورونا بجمع التمويل عبر أسواق المال تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.
ألمانيا، إلى جانب دول الشمال الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل هولندا، ترفض هذه الفكرة، معتبرة أنها مجرد محاولة من دول جنوب القارة لاستغلال معدلات الفائدة على القروض المنخفضة التي تتمتع بها الدول ذات الموازنات المتوازنة، فيما قال رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي: «إصدار سندات يورو يعني اجتياز الحدود نحو تشارك للديون، ولا نريد ذلك».
رفض إنشاء «سندات كورونا»، سيجعل روما ومدريد والعديد من العواصم الأوروبية غير قادرة في ظل تواصل أزمة انتشار فيروس كورونا على الاستدانة وحدها في أسواق رأس المال كون معدلات الفائدة مرتفعة كثيرًا، واقتصاداتها تعاني مشاكل كبيرة.
وحتى حينما سارعت ألمانيا التي اتضح أنها تمتلك أكثر النظم الصحية قدرة على التعامل مع الوباء لاستقبال مصابين من إيطاليا وإسبانيا لم يخفف ذلك كثيرًا من حدة الأزمة في الدول التي تأثرت بشدة بفعل الوباء. كان غياب هذا التضامن أيضًا فرصة جديدة لليمين الشعبوي للدفع في اتجاه استغلال سياسي للوباء لنقد المؤسسات الأوروبية التي تراخت عن نجدة تلك الدول المنكوبة، وانتقاد حرية الحركة بين الدول في منطقة اليورو التي أتاحت انتشارًا سريعًا للفيروس في أوروبا جميعها بعد إيطاليا.
كيف يمكن أن تتغير أوروبا بعد الأزمة؟
يعاني الاتحاد الأوروبي من أزمات متراكمة، وثمة تجاذبات سياسية كبيرة، ليس فقط بسبب صعود اليمين الشعبوي، ولكن تجاذبات حول الدور الذي تلعبه ألمانيا وفرضها لرؤيتها الاقتصادية خاصةً فيما يتعلق بالديون في دول الجنوب.
صعود اليمين الشعبوي في تلك الدول يضع ضغوطًا كبيرة على المؤسسة الأوروبية، لكن العامل الأكبر في بقاء الاتحاد حتى الآن هو المزايا الكبيرة للدول للوجود فيه، فالنفاذ السهل للأسواق وتكلفة التجارة المنخفضة وارتباط سلاسل الإنتاج الأوروبية اليوم أسهل من أي وقت مضى.
كشفت أزمة فيروس كورونا عن ضعف شديد في النسخة الأوروبية من العولمة، تلك النسخة التي قامت بالأساس على التكامل الاقتصادي بين الدول وتبادل المنافع، لكن في وقت الأزمات العميقة نجد الدول تتقهقر للداخل وتنغلق على نفسها.
كتب زيغمار غابرييل وزير خارجية ألمانيا الاتحادية السابق مقالاً مطولاً في صحيفة تاغيس شبيغيل قال فيه إن أخطر ما يمكن أن تفرزه أزمة كورونا هو أن يستقر في وعي الناس بعد كل ما حدث أن السبيل الوحيد للحماية ضد الأخطار العالمية هو حماية دولتهم الوطنية.
وقال غابرييل «إن الفيروس لن يصيب الناس فحسب بل سيصيب أيضا مشاريع الوحدة والتعاون الدوليين- بما في ذلك صيغة الاتحاد الأوروبي – والتي تم الوصول إليها بكلفة عالية من الجهد والدماء»، واصفا هذا الأمر بفيروس « أمتي أولاً»، ومؤكداً على أنه إن كانت أوروبا تريد أن تلعب دورًا في المستقبل وأن تحافظ على وحدتها فعليها تقديم حلول مقبولة لإنقاذ الناس، وهذا لن يحدث إلا بالتعاون بين المجتمعات وليس الانعزال والانغلاق على الذات.
تقدير أن يتغير العالم؟
بعد جائحة كورونا التي التهمت العالم أدرك الأفراد هشاشة الحالة الإنسانية ورسموا حدودهم الشخصية من خلال حاجز الكمامة على الوجه والتباعد الاجتماعي، ليرسم كل منا خريطة حدوده الشخصية بعلامات ورمزيات واضحة. يجلس الفرد في بيته وعينه شاخصة على ملك الموت المتخيل والقابع خلف الباب. موت قريب ومعلن، وخوف الإنسان من دفن أخيه الإنسان، كل حسب تعاليم دينه، يجعل كلاً منا يضغط على زر التوقف المؤقت. ونتيجة لهذا التوقف على المستويات الثلاثة؛ العالم والدولة والفرد، أجدني منحازا إلى جماعة أن العالم بعد «كورونا» سيكون غير العالم قبلها، على الأقل على مستوى الإدراك. كونوا بأمان.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست