إنّ مبدأ اعتياد المجتمعات على ظاهرةٍ معينة لم ينطبق مع كورونا؛ لأن هذا الوباء لا يمكن تقبّله مثل أي أنفلونزا موسمية تحتلّ الجسد لأسبوع أو اثنين ثم تمضي، وليس انتشاره هيّنًا يمكن التعامل معه. فقد تمكّن بشكل جيد من حجر أي فرد عن عائلته، وصار المصاب يتألم بنوعين من الألم، ألم الوباء الذي يجهل ما سيفعل به، أو قد يودي بحياته، وألم العزلة المُطلقة التي وجد نفسه فيها بلا مواساة أو صحبة. وجد المصاب نفسه مع أشخاص يرتدون بزّات لا تبعث على الراحة النفسية له، ويعاملونه كما لو أنه سيموت، يشفقون عليه، ويحاولون ألاّ يشعرونه بأنه وحيد ومنعزل. إنّ ذلك الأمر لن يمرَّ بالذاكرة القريبة مرور الكرام، بل سيشكل شريط ذاكرةٍ مؤلم ليس بالسهولة تجاوزه. نضيف إلى ذلك حتى أولئك الراحلين الذين نال منهم الوباء، فسوف تكون نهاياتهم ما بين التصديق وعدمه عند محبيهم، ستبقى الكثير من القصص عالقة بأذهان المقرّبين لهم، إذ لم يكونوا متصورين النهايات المفجعة.
إنّ تأثير هذا الوباء سيعلق بالذاكرة الجمعية وعلى مستوى واحد من التأثير، في أكثر الدول المصابة وفي اقلها، والتوثيق الرقمي له سيظهر بين الحين والآخر، ومثلما نقلتْ وسائل التواصل الأخبار عنه، ستبقى تعرض في أرشفتها التي دوّنها كاتبوا المقالات، وناشرو الأخبار، الصحافيون والكتّاب والمختصون ومواقع القنوات، تعرض ذاكرة جمعية وقفَ الجميع أمام جبهتها.
والواقع أنّ العالم إلى الآن ما زال يعيد بذاكرته ويلات الحرب العالمية الثانية بالرغم من مرور العقود الطويلة عليها، وما زال الباحثون الأوروبيون يوثّقون تلك المخلّفات بمعداتهم الحديثة مثل الرسوم الثلاثية والتخطيط الليزري للأماكن، يعيدون دراسة هياكل هتلر العظيمة كمصانع السلاح والتروس والابتكارات.
وهذا إنْ دلّ على شيء، فهو يشير إلى الذاكرة التي ما تزال عالقة بقاياها في أذهان مجتمعات مدنٍ مثل لندن وستالين غراد وبرلين. ومع مرور وقت طويل على تلك الحرب، أعادت أحداث الوباء ذاكرة الدمار المجتمعي حينما لم تجد ما يسع للسلطات أن تنقذهم. وكل ما سيمكنها فعله، هو انتظار النهاية والبدء من جديد بحياة لا خطر فيها يهدد الفرد، على أمل بناء نمط مجتمعي جديد يتلقى مفاهيم ثقافية جديدة لم يسبق له أن تلقّاها، وهي مفاهيم تخصّ الأوبئة، تتشابك فيها الآراء، ويختلف البعض كلٌّ وفق جهة نظره، ستستغل فيه السلطات عبور المرحة الحرجة والاعتماد على النسيان الجمعي أيضًا، في أخبار جديدة مُلفتة، وأحداث مثيرة بإمكانها شغل حيز في أذهان الكثيرين لو لفترة معينة. ستستغل الكثير من الديمقراطيات أحداثًا ومواقف تلهي مجتمعاتها فيها، مثل فوز مفاجئ لفريق كرة قدم لم يكن بالحسبان فوزه، أو حادث سياسي مثير، من أجل تخطي مرحلة وباء كورونا، وتعافي المجتمعات من ذكراه. أيضًا ستستغل بعض السلطات فوضى كورونا من أجل قمع ما يمكن قمعه من نشاطات تعاكس وجهة نظرها.
كما أعطى هذا الوباء لمحةً مهمة عن إدارته هو للحرب، واجبر الكثير من الدول المتحاربة والجماعات المتصارعة على إيقاف كل نزاعاتها وبشكل مؤقت ربما. وتوجيه تمويل حركاتها العسكرية إلى الأنشطة التي تعنى بمواجهة كورونا. لو نلاحظ الحركة البشرية التواقة إلى الحرب، نرى جيدًا أنّ الحروب على مرّ الزمان لم تنته، لوجود قناعةٍ متغطرسة هي من تقود العقلية المُسيطرة لشن الحروب من أجل خلق حالة القوة والضعف. ولو عدنا إلى الوراء، إلى أي بقعة زمنية في أي مكان من الأرض، نجد أنّ الحروب مهما كانت مبرراتها لم تكن نتائجها على قدر الطموح لو أنّها قورنت بالأرواح التي أزهقت.
لقد حصلت حروب كثيرة، وانتصر من انتصر فيها، وهُزم من هُزم فيها، مات رجال، وتدمرت مدن، وتغيّرت معالم، لكن كل ذلك لم يجعل الإنسان متصديًا لأزمنة الأوبئة. لأن الأوبئة حقب يتساوى فيها الجميع، القائد والجندي، السيد والخادم. فنلحظ الآن ضعف القوة النووية، والخبرة العسكرية التي تلقتها البشرية من الحروب البعيدة والقريبة، لم تفلحا في التصدّي للوباء، بل من المثير للدهشة أنّ تصاب حاملات الطائرات الأمريكية بالوباء، وتبقى معزولة تطلب الإغاثة والتحرك السريع لمن عليها دون أن يستجاب لها، إلا بعد أن نال الوباء حتى من قائد إحداها.
لقد جبر الوباء على إيقاف الحروب، وإن كان بشكل مؤقت، اجبر كل من كان يهدر أمواله في إطلاق الرصاص والصواريخ على إعادة توجيه نفقاته إلى الحرب الأخرى. أجبر الكل على شراء المُعقّمات والبزز المتخصصة والأقنعة الشفافة. ثمة حروب نتابع أخبارها في زمن هذا الوباء، حرب سوريا الطويلة التي غدت حرب من أجل لا شيء، تُحلّق في سماء ذلك البلد طائرات الولايات المتحدة، وروسيا، وإسرائيل، وتركيا، وإيران، والحكومة السورية، والمسلحين، وربما دول أخرى.
لا نريد الخوض في الويلات والفظائع التي حصلت. بالرغم من عقد المؤتمرات بخصوص هذه الحرب، القرارات الدولية، والهُدن الكثيرة، والموت الطويل. لم تتوقف كما لو أنها كتاب قصص حربية كل يوم يقلب العالم صفحة منه ويطالع في أوراقه. توقفت الحرب بقرار بسيط، تلقائي لم يُعَد له. وتحوّلت كل القوى المسيطرة في السماء والأرض إلى مواجهة كورونا الخفي. ثمة حرب نطالع أخبارها في اليمن المُتعبَة.
وبقدرة الوباء جُمدّت الحرب آنيًا أيضًا، في ليبيا الأمر نفسه. الحرب ليست بالضرورة أن تستخدم الدول والأطراف فيها الأسلحة، أنّما كل مصنع ينتج رصاصة، وكل طائرة مقاتلة تُنتَج، وكل صاروخ قصير أو بعيد المدى، وكل بزّة عسكرية وخوذة جندي. كل الآلات العسكرية التي تنتجها الدول وتشتريها أخرى هي بمثابة حرب. فقد كان حريًا على الأموال التي أُهدرت في تلك المصانع أن تتجه إلى بنايات أهمّ تخص الصحة والبيئة.
فقد أظهر نقص أجهزة التنفس الصناعي الوجه القبيح لكل الأنظمة السياسية أو الاقتصادية. وتبيّنّ أن الحرب التي تشتغل من أجلها الأموال والأرواح لم تدافع عن أي إنسان وهو يواجه استسلام رئتيه وبحاجة ماسة إلى هواء. إذًا ما فائدة الحرب؟ وما فائدة الإعداد لها في الاستعراضات العسكرية المهيبة التي تقام ما بين فترة وأخرى؟ وما أهمية المناورات التي تكشف مدى الاستعدادات للحروب المفترضة ؟. في الوقت ذاته، نجد ان كل الاستعدادات تلك وكل جهود الجيش وآليته، قد جرى استدعاؤها لنقل جثث ضحايا كورونا، وتكليف العسكر في بعض الدول بدفن أولئك الضحايا. هكذا اصبح دور القوة في زمن الأوبئة، وكان حريًا تسخير كل الأموال المحجوزة لها، أو قُل نصفها، أو بعضها في تصنيع أجهزة تنفس، وتجهيز أماكن صحية للحالات الطارئة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست