عرف التاريخ البشري العديد من الأوبئة التي فتكت بالملايين من البشر، ولم يكن لهم من خلاص منها سوى التلقيح. وقد نأخذ مثالًا على ذلك مرض الجدري الذي كانت تبلغ نسبة الوفيات به من 20 إلى 30% من بين المصابين به، والذي يعد أول مرض أنتج لقاح له عام 1796 بواسطة الطبيب البريطاني إدوارد جينير. واستمر اللقاح ضد هذا المرض إلى غاية 1978 السنة الذي جرى الإبلاغ فيها عن آخر حالة مرضية، لتعلن بعدها المنظمة العالمية للصحة سنة 1980 القضاء على مرض الجدري تمامًا، بعدما حصد أرواح 300 مليون شخص في القرن العشرين، ونصف المليار من البشر في المائة سنة الأخيرة من وجوده. فاللقاحات ضد الأمراض الفتاكة والمعدية تبقى الحل الأنسب الذي يستفيد منه الجميع دون تمييز، بل ذهبت بعض الدول إلى وضع سياسات تطالب بتلقيح جميع الناس، ففي أمريكا مثلًا يطلب من الأطفال أن يحصلوا على عدد من اللقاحات قبل ولوجهم لمدرسة عامة، كما أن التطعيم للحمى الصفراء يعد لازمًا من أجل الحصول على تصريح الدخول للعديد من البلدان في أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
ومن السيناريوهات المحتملة والمواكبة لطرح اللقاح للعموم هي التدافع وتسابق حول من سيتسنى له الاستفادة أولًا من هذا اللقاح، حتى يضمن عدم الإصابة بالعدوى وبالتالي يستعيد الشعور بالأمان الذي افتقده مند شهور عديدة، ويتخلص ولو نفسيًّا من مخلفات الإجراءات الاحترازية التي رافقته لأكثر من عشرة أشهر. لكن وقبل ظهور اللقاحات، كانت هناك دعوات إلى ضمان عدالة توزيعها، وإعطاء الأولوية في اللقاح لمن يستحقها، وفي مداخلة له عبر الفيديو في قمة اللقاحات العالمية التي استضافتها بريطانيا عبر الواقع الافتراضي شهر يونيو (حزيران) المنصرم، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن اللقاح ضد فيروس كورونا يجب أن يكون لقاحًا للشعوب، مساندًا بذلك دعوات صدرت عن منظمات دولية لتوفير العلاج المستقبلي المحتمل ضد الفيروس للجميع، وليس لدول دون أخرى. كما صرح تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية في رسالة لزعماء العالم المجتمعين شهر سبتمبر (أيلول) الفارط افتراضيًّا للمشاركة في مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن «أسرع طريق للقضاء على جائحة كوفيد-19 وتسريع الانتعاش الاقتصادي هو ضمان تلقيح بعض الأشخاص في جميع البلدان، وليس جميع الأشخاص في بعض البلدان». كما كانت الدكتورة سمية سواميناثان، كبيرة العلماء في منظمة الصحة العالمية، قد أكدت أثناء مؤتمر صحفي لها عبر تقنية الفيديو يوم الخميس 18 يونيو الماضي إلى «أهمية التفكير بالشرطة وعمال البقالة وعمال الصرف الصحي، فهم أيضًا أشخاص يعرضون أنفسهم للخطر، كما يتعرض العاملون في الخط الأمامي، كسائقي سيارات الإسعاف وغيرهم من العاملين في مجال الرعاية الصحية في مختلف البلدان». وأضافت الدكتورة سواميناثان في هذا الصدد،«إن الأفراد في السجون ودور العجزة والمصانع والأحياء الفقيرة التي جرى الإبلاغ عن تفشي الفيروس فيها، يجب أن يتلقوا اللقاح كأولوية».
إن توفر اللقاح بالكميات اللازمة في بعض الدول بدون التوفر على تخطيط استراتيجي وتكتيكي وعملياتي ولوجيستيكي، غير كاف للوصول إلى النتائج المستهدفة. وقد تتحول العملية برمتها إلى هدر للمال دون نتائج إن لم تؤخذ بعين الاعتبار ظروف ووسائل التخزين، ونقل وإدارة اللقاح على كافة التراب الوطني لتلك الدول، خصوصًا بعد تداول المعلومات التي نشرتها وكالات الأنباء الدولية عن اللقاح الجديد ضد كورونا الذي يعد غير مستقر للغاية، ومن أجل المحافظة عليه يجب تخزينه حتى وقت الحقن بدرجة حرارة لا تقل عن ناقص 75 درجة سيليسيوس، وهي أقل بكثير من أي شيء يمكن لوحدة التجميد القياسية التعامل معه. كما أن وضع نظام ناجح للتسجيل القبلي للمستفيدين، يعطي الأولوية لمن يستحق، سيمكن من ضمان الولوجية للقاح لجميع المواطنين، الذين يجب عليهم بدورهم التحلي بروح المسؤولية والتضامن، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ حتى يتمكن الجميع من الاستفادة في أحسن الظروف.
إن الاستثمار والانخراط بمسؤولية في الحملة المكثفة للتلقيح ضد كوفيد-19 من طرف جميع الفاعلين من حكومات، وإدارات، وجيش، وقوات أمنية، ومواطنين، سيفتح الباب للاقتصادات الوطنية من أجل الانتعاش مجددًا، خصوصًا بعد استعادة القدرة على السفر والتجارة الدولية بالكامل، حيث قد تشكل بعض الدول السياحية كالمغرب مثلًا، ملاذًا ووجهة سياحية آمنة من انتقال عدوى كوفيد-19 لسياح العالم، الذين ينتظرون بفارغ الصبر رفع القيود عن التنقلات الدولية، من أجل تعويض ما قضوه من أيام بين الجدران وقت الجحر الصحي العام، خصوصًا أن المملكة المغربية أخدت على عاتقها توفير اللقاح لجميع مكونات الشعب وبالمجان.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست