العالم أصبح قرية واحدة صغيرة، ربما يشير هذا المصطلح إلى مفهوم العولمة الاقتصادية التي تخطت فيها الشركات الحدود القومية، وخلقت أشكالًا جديدة من الشركات متعددة القوميات، أو بالأحرى متعدية القوميات، وصار لرأس المال حرية حركة غير مقيدة بالحدود، ربما يشير إلى الثورة التكنولوجية الكبيرة في مجال الاتصالات، والتي خلقت قدرة على التواصل بين أطراف العالم وخلقت مفهومًا جديدًا للمكان والزمان، وربما يشير أيضًا إلى التقدم الكبير في مجال النقل والمواصلات الذي منح حرية حركة كبيرة للناس والبضائع عبر الحدود والدول.
نعم قد صرنا قرية صغيرة بفضل كل هذا، لكن مع ظهور فيروس «كورونا» وانتشاره السريع بدأ الأمر لي أكثر عمقًا، وأن هذه العولمة منقوصة ومعيبة، وأن هذه القرية تزرع في تربتها بذور فنائها، حيث أصبح من الممكن بسهولة نتيجة أيضًا لكل ما سبق أن يظهر فيروس مثل فيروس «كورونا» الجديد في الصين فيدور العالم كله، ويتحول إلى وباء عالمي بنفس سرعة حركة البضائع، ورأس المال، خالقًا تهديدًا للبشرية في كافة بقاعها.
كشف انتشار وباء فيروس «كورونا» الجديد كما يكشف الاحتباس الحراري وغيره من الكوارث والأزمات التي تواجه البشرية، شكل جديد من أشكال العولمة، وهي عولمة الخطر على البشرية والتهديد بفنائها، وهذه العولمة تتخطى الحدود والقوميات والطبقات، كما كشف انتشاره أيضًا عن قصور المنظومة العالمية الحالية في مواجهة هذا التهديد، نظرًا لانحيازاتها لمصلحة الأقلية وتعظيم أرباحها، ولو كان هذا على حساب البشرية جمعاء، وكذلك لاعتمادها على فوضي السوق، وليس الإدارة المنظمة للموارد وفقًا لحاجة المجتمع، لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع للمقال السابق «الأزمة الاقتصادية والوباء.. مقدمة موجزة».
لقد جاءت ظاهرة انتشار الفيروس لتقول، بكل قسوة للأسف، إن قريتكم هذه قرية ظالمة ضعيفة مفككة مليئة بالتناقضات، قرية تتباهى بمنجازاتها، بينما لا تستطيع الدفاع عن نفسها ضد فيروس لا يري بالعين المجردة، قرية كل بيت داخلها منغلق على ذاته ومصالحه الضيقة، ما يحكمها هو قانون السوق الأعمى الذي يقدم الربح على الإنسان، ويدير مواردها البشرية والمادية قانون واحد هو السعي من أجل الربح، وليس تحقيق الرخاء والكفاية للمجتمع، قرية تنحاز لرأس المال وليس العمال، لمصالح الأقلية وليس الأغلبية.
لا عجب أن تسجل تقارير وكالة «ناسا» انخفاض مستوى تلوث الأرض بنسبة 48% بالتزامن مع انتشار فيروس «كورونا» وانخفاض مستوى النشاط الصناعي بالدول الكبري وانبعاثاته الكيماوية الضارة بالمناخ، وكأن الفيروس جاء برسالة أخرى إلى البشرية أن الدفاع عن نفسك لن يكون إلا بحماية الآخرين، بل وحماية القرية كلها بأرضها وغلافها الجوي، بنبتها وحيوانها، وأن هذه القرية الصغيرة التي جمع سكانها الاقتصاد في مواقع العمل وربطتها التكنولوجيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي ينقصها شيء مهم جدًا وهو قيمة العيش المشترك وأهميته.
فمع استمرار أزمة انتشار الفيروس صارت هناك رؤيتان تتنازعان عالميًا، وكل دولة في العالم بها مزيج من هاتين الرؤيتين بدرجات متفاوتة، الرؤية الأولى: واضحة تمامًا بالنسبة لأصحابها أمثال ترامب، وهي أن الاقتصاد أهم، وأن الرأسمالية لابد وأن تمر، ولو كان هذا على جثث كبار السن، وأصحاب الأمراض المزمنة، وأظن أصحاب هذه الرؤية يقومون أو سيقومون في المستقبل بنفس طبيعة الحصر في مصر من تتبع الحالات بدون مسح جزئي أو شامل أو اهتمام بانتشار المرض بحيث يموت من يموت، وتدريجيًا سيقومون بتخفيف الحظر ومحاولة تحريك عجلة الإنتاج لوقف الكساد، وتجاهل أي معنى للعيش المشترك.
الرؤية الثانية: وهي ليست بنفس المستوى من الوضوح عند أصحابها، وإن كانت هناك إرهاصات لها مثل تأميم المستشفيات في إسبانيا، وهي رؤية تقدم الإنسان على الاقتصاد وتعمل على التوسع في الفحص والسعى حثيثًا لمنع انتشار المرض بين المواطنين مع تقديم رعاية صحية لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة وعمل إجراءات قوية لحظر السفر، ووقف عجلة الإنتاج والتأكيد على قيمة العيش المشترك.
العيش المشترك الذي يعني أنك لن تستطيع العيش في رفاهية وحدك طالما غيرك يعاني شظف المعيشة، لن تكون في مأمن طالما هناك خطر يهدد الآخر، لن تستطيع إنقاذ نفسك سوى عندما تهتم بسلامة الآخرين وأمنهم. فنحن مسكونون بالآخر، ليس على مستوى الوعي واللغة فقط، ولكن حتى على مستوى المصلحة المشتركة في البقاء على هذا الكوكب وبقائه هو ذاته، وبالتالي لن ننجو إلا بنجاته، وبغير ذلك لن يستقيم لنا عيش على هذا الكوكب، فمثلًا على عكس الجيوش التي ينفق عليها المليارات وكل وظيفتها هو تحطيم بعضها وضرب البشرية ببعض، في أزمة «كورونا» الحالية أصبح كل طبيب أو ممرض يعمل الآن في مستشفي لا يدافع عن نفسه أو عن بلده فقط، بل صار يدافع عن البشرية كلها، كما أن كل مواطن الآن يلتزم بيته هو أيضًا يدافع عن البشرية كلها.
وهذا يؤكد على ضرورة أن تتعاضد البشرية ككل من أجل سلامة الكوكب وقاطنيه كسبيل وحيد لعلاج هذا الشكل من أشكال التهديد المعولم، فالأولوية يجب أن تكون للعلماء والأطباء والمعلمين والباحثين، وليس رجال المال والأعمال ورجال الدولة، الأولوية يجب أن تكون لمراكمة العلم، وليس السلاح، فقد استطاع فيروس غاية في الدقة الوصول إليك مرورًا بأجساد وجثث الكثيرين غيرك دون تفرقة في الدين، أو العرق، أو الجنس، أو الطبقة، غير مبال بحجم الأسلحة والمعدات وحاملات الطائرات الفتاكة لديك.
وتجب الإشارة إلى أنه من الصحيح أن كل البشر أمام فيروس «كورونا» سواء، ولكن هناك بشرًا أكثر عرضة للإصابة من آخرين، كما أن الرعاية الصحية عند بعض البشر أقل منها عند آخرين، وبالتالي نعم الفيروس لا يفرق بيولوجيا بين البشر، ولكن المجتمع يفرق طبقيًا بينهم، وهذه التفرقة قد تؤجل انتشار الفيروس بين طبقات المجتمع العليا، ولكنه في النهاية سيصل إليهم، وهكذا في المجتمع المنقسم طبقيًا كل ما تفعله هذه التفرقة، وهذا التمييز للطبقات العليا في مواجهة الكوارث المحدقة بالكوكب هو تأخير فنائهم، أو بالأحرى تأخير فناء بعضهم، وليس منعه.
لقد خلقت العولمة من العالم بالفعل قرية صغيرة انفتح فيها رأس المال على بعضه، ولكنها لا تزال قرية مقطعة الأوصال، يضيّق فيها على حركة الأيدي العاملة وتعاضدها، فلو كان اصطفاف العمال والباحثين في مواقع العمل والإنتاج بشكل متفرق هو الذي خلق كل ما نراه من تقدم وتقنية فإن تجاوزهم الحواجز فيما بينهم وتضامنهم معا لخلق شكل جديد من أشكال العولمة البروليتارية، هو المنقذ الحقيقي لهذه القرية، وهذا بالطبع لابد وأن يأتي باشتراطات تضمن تفعيل الديمقراطية من أسفل حتى لا نعيد إنتاج التجربة الستالينية من جديد.
عندما سيعيد الإنسان اكتشاف ذاته كمواطن عالمي لا يخضع لحدود، أو قوميات، أو تقسيم طبقي، أو عرقي، أو ديني، سيكون قادرًا على مواجهة الأخطار المحدقة التي تهدد بفنائه، وإدارة موارده بديمقراطية حقيقية، وبما يحقق رخاء وسعادة المجتمع والكوكب ككل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست