عملت دور السينما منذ فترة طويلة كملاذ في أوقات الحرب والركود. وقد مرت شاشاتهم بلا هوادة تقريبًا في القرن الماضي. لكن الفيروس التاجي يمثل حالة نادرة وأزمة حادة لوسط يتعرض بالفعل للخطر من قبل ظهور خدمات البث الإلكترونية، مما زرع الرعب في شركات الإنتاج نفسها؛ لأن الأوضاع قد تجاوزت مستوى إدراكهم وقدرتهم على تحليل الأمر ومعالجته. فما مصير دور السينما وسط ألسنة نار «التاجي» وانتهاز منصات البث فرصة الحصار؟
السينما لا تنحصر في إمتاع العين
حسب منظمة الصحة العالمية، فقد أصبح كورونا جائحة عالمية، وبالتالي، فلم يقف «التاجي» في حصد الأرواح فقط، بل هشَّم اقتصاد العديد من الدول الصلبة، وجعل بعضها يتكئ على عصيٍّ مهترئة، وبعضها الآخر على شفير الاستسلام. فتوغل عميقًا لينشر العدوى في أركان قد لا تقل أهمية عن باقي الأركان الاقتصادية الأخرى، وأخص بالذكر هنا القطاع السينمائي، كثير من الناس ما يزالون ينظرون إلى السينما كونها تنحصر في مقاطع الأكشن والرقص والخيال العلمي، وهذا ما يجعل قدرتهم التحليلية سطحية لدرجة التجاهل. لأن صناعة الأفلام ليست للترفيه فقط، بل تحمل مضامين اقتصادية تتمثل في فرص عمل وتحقيق الدخل الفردي، وتعزيز قدرات الاقتصاد المحلي، والأهم من كل ذلك، تعزيز دعامة القوة الناعمة للدول، وتعزيز الأهداف الوطنية. فكلنا نعلم أن صناعة السينما قد حولت روائع الأعمال الأدبية الروائية إلى مشاهد فنية محسوسة، وصنعت لنا حقائق سياسية واجتماعية لامعة، أكثر مما جاء به السياسيون والوعاظ أنفسهم، وأظهرت صور الإحباط النفسي الذي يتعرض له الإنسان في كل بقاع العالم، كما جادت لنا بكل أنواع الفنون والترفيه والاستعراض الموسيقي. حتى إنها لم تغفل الجوانب العلمية والتاريخية في استعراضها. فكل هذه الموضوعات نتناولها في مكان واحد، «دور السينما» التي أضحت الملاذ الترفيهي، ومصدر المعرفة لكثير من عشاق الفن السابع، هذه القاعات التي انبثقت لأول مرة حوالي سنة 1885 في قبو «الغراند كافيه» الواقع في مدينة باريس، حيث أُعلن فيها أول عرض سينمائي فوتوغرافي.

صورة لقبو «غراند كافيه» الذي أقيم فيه أول عرض سينمائي فوتوغرافي مأخوذة من موقع thecinematicpackrat
دور السينما بسيف خشبي في مواجهة رمح الوباء وتربص منصات البث
مع مرور السنوات وبين طيات العولمة، تطورت صالات العرض وصعدت على صهوة التكنولوجيا، لتولد لنا أشكالًا «مستقبلية» من الفرجة، شاشات بطول عمارة بأربعة طوابق مزودة بأفضل وأجود المعدات الصوتية، وأخرى أنعمت علينا برؤية ثلاثية الأبعاد لترفع يدك فيها خوفًا من أن يهاجمك «فولدمورت» بعصاه السحرية، أما بعضها فقد اعتلى سلمًا آخر من التقدم ليحجز لك مقعدًا وسط أحداث الفيلم وتتفاعل مع بيئته، من هزات للكرسي، ورشات المطر، ونسمات الرياح، لتصبح هذه الدور أحد أهم عوامل صناعة المال في علم الاقتصاد، فمداخيل صالات العرض من بيع التذاكر عالميًّا قد تجاوزت عتبة 70 مليار دولار سنويًّا. فهل سيتلاشى هذا الرقم ويحيل كورونا مفهوم هذه الصالات إلى قسم الأرشيف؟
مع السيطرة التي تشهدها منصات البث الترفيهية الرقمية مثل «نيتفليكس»، و«إتش بي أو ماكس»، و«ديزني بلس»، والارتفاع الكبير لعدد مشتركيها كل شهر، بات الخطر يحلق فوق عقود من تقاليد هوليوود، حيث أضحت هذه المنصات، وسيلة سهلة لعرض كافة أنواع الإنتاجات القديمة منها والجديدة وحتى الحصرية، في قالب تكنولوجي يسهل الولوج لها بكبسة زر فقط، ولا يكلف المشاهد عناء التنقل أو في بعض الأحيان السفر لمشاهدة فيلمه المفضل.

صورة لشعار بعض منصات البث الترفيهية المعروفة مأخودة من موقع publish0x
صرح المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ في رسالة مشفرة إلى نيتفليكس، بأن الأفلام التي يتم بثها ويسهل الوصول إليها يكفيها التنافس على جوائز الإيمي وليس الأوسكار، ولم يقم أحد من كبار المهتمين بعلوم السينما بالرد على تصريحه المثير للجدل، فيما خرجت شركة نيتفليكس بعد التهامها لمفهوم «الإنتاج» بعد مسار طويل من «شراء الحقوق وإعادة التوزيع»، وبعد حجزها لأكبر عدد من المقاعد في حفل توزيع جوائز الأوسكار، مصرحة بأنها ليست ضد فكرة «الدور السينمائية»، ولكنها تدعم فكرة تقريب الإنتاجات للذين يعيشون بعيدًا عن المسارح أو لا يستطيعون تحمل تكلفتها. ففي الصين وحدها ومع بداية جائحة كورونا أغلق ما يزيد على 60 ألف دار سينما، مسببة خسائر فادحة في القطاع، وتشير التقديرات إلى أن مبيعات شباك التذاكر في جميع أنحاء العالم هذا العام حتى الآن قد انخفضت بما لا يقل عن 5 مليارات دولار، وما يقرب من 50% من هذا الانخفاض يشمل السوق الصينية وحدها، وقد قُدر أن الصناعة ستخسر 15 مليار دولار في المبيعات للعام بأكمله؛ بسبب دور السينما المغلقة، على الرغم من أن هذا الرقم المرعب يمكن أن ينمو اعتمادًا على المدة التي يستمر فيها الوباء.
وفي خضم الأحداث التي يشهدها العالم، والضرر الذي أحدثه الفيروس «التاجي»، أجلت جميع شركات الإنتاج عرض أحدث أفلامها لأجل غير مسمى، فيما توقف بعضها عن التصوير، وبالتالي فإن الإضطراب الذي يعيشه الآن القطاع السينمائي سيغذي الجدل القائم حول ما إذا كانت هذه الأفلام ستنتقل إلى منصات البث الرقمية بسياسية جديدة، وبالفعل، فقد ظهرت أول ملامح هذه الاستراتيجية مع الشركات الإنتاجية الآسيوية، إذ أرسل عملاق التكنولوجيا الصيني ByteDance الفيلم الكبير «Lost in Russia» مباشرة إلى منصات البث، بعدما أعلنوا أنه متاح للمشاهدة مجانًا، وقد سجل ما يزيد على 600 مليون مشاهدة، لتنتقل حمى هذه الاستراتيجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع شركة Universal، التي أعلنت بدورها أن أحدث إصدراتها الثلاثة ستكون متاحة على منصات البث أثناء عرضهم في المسارح، وهذا يشمل أجدد جزء من فيلم الأنميشن الجديد «Trolls: World Tour»الذي سيعرض بالتزامن في دور السينما وعلى الإنترنت. فيما اتخذت بعض شركات الانتاج موقفًا صارمًا تجاه هذه الفكرة، واكتفت بتأخير أزمنة عرض أفلامها حتى وقت لاحق من هذا العام، مثل أحدث فيلم لجيمس بوند أو فيلم «Blak Widow» الذي أعلنت شركة ديزني عن تأخير إطلاقه بعد ارتفاع وتيرة الاضطراب في نشاطها الترفيهي.
حسب ما عبر به العديد من مرتادي صالات العرض، فإن فكرة انتقال سكنى الأفلام إلى منصات البث قد لاقت استحسانهم، وهذا أمر من المفترض سماعه؛ لأن هذه المنصات قد غيرت كيفية الوصول إلى الأفلام، ومنحت للمستهلكين إمكانية عرض ما يريدون من محتوى وعندما يريدون في أي جهاز وفي أي مكان، ومع تزايد عدد مشتركي هذه المنصات بنسبة 10% سنويًّا، والإمكانيات والتقنيات الحديثة التي تزودها للمستهلك من جودة الصورة العالية الدقة، إلى المشاهدة ثلاثية الأبعاد، وصولًا إلى الرؤية بنظام 360 درجة. فإن دور السينما بكافة أنواعها واقفة الآن على حافة الركود والجمود. خصوصًا أن تلك المنصات، تستغل وبذكاء ظاهرة تفشي الوباء من أجل إقناع المستهلك، أن منصاتها جديرة بحمل مشعل العرض السينمائي أكثر من نظيرتها التقليدية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست