كما وتبدأ معالم التغييرات الكونية المتمثلة بالمناخ والظواهر الطبيعية الأخرى مثل البراكين والزلازل بالتأثير المباشر في الوجود البشري بكامله، وليس بالبعيد أن تعرّضه للانقراض كما سنوضح لاحقًا. تبدأ بالتأثير في الوجود لأنها المصدر المؤثِّر في الأحياء على وجه الكرة الأرضية. فقد لوحظ في السنوات الماضية الكثير من العادات لم تحصل من قبل، مثل ظهور طيور مهاجرة في بلدان لم يسبق للبشر أو المهتمين أنْ رأوها. لا يعقل أن تلك الطيور جاءت لتتسلى، بل إن سببًا قاهرًا أجبرها على تغيير نمط حياتها وحرمَها من الخط المعهود في هجرتها عبر السنين.

كما أن تلك الهجرة ستغيّر حتمًا من الأماكن التي لم تستطع بعد زيارتها وقضاء موسم كامل فيها. وسيفتقد أناس تلك الطيور ويستغربون اختفاءها مثلما استغرب من لاحظ َظهورها في الأماكن الجديدة. إنّ تلك الحركة قد غيرت من طبيعة أشياء كثيرة حتمًا، لأن تلك الطيور لم تعد تجد ما يجعلها تمكث لفترة من الزمن مثل الغذاء والطبيعة الملائمة للتكاثر. وعليه، لماذا اختفت تلك العناصر التي كانت تعتمد عليها تلك الطيور؟ الجواب هو أنّ العامل المؤثِّر قد أحدثَ تغّيرًا في المناخ، جعل من حرارة الماء ترتفع مما جعل الأسماك هي الأخرى تغادر المياه الملائمة لها وتذهب إلى أماكن أكثر ملاءمة لطبيعتها، وبالتالي لم تعد الطيور تأتي وغيّرتْ مسارها إلى الأبد ربما. وهذا التأثير قد انعكس طبعًا على الحياة البشرية في الاعتماد على صور كثيرة من تلك الهجرة وسيضطر هو الآخر إلى إيجاد سبل عيشٍ أخرى بديلة. يضطر إلى مشاركة أعمال غيره، ومشاركة مورد دخل غيره، فيتأثر بذلك مورد الأول.

هذه الأمثولة ليست بسيطة، تجعلنا نتساءل: لماذا ارتفعت حراة الماء؟ وستكون الإجابة الاحتباس الحراري المعروف. ونتساءل مرة أخرى: ولماذا حصل الاحتباس الحراري. فنجيب أيضًا، حتى نقول في الآخِر: ما العمل. لم نتساءل نحن بني البشر في ما العمل إلاّ عندما تهددتْ عناصر بقائنا. ولم نكترث أبدًا لكل تلك السلسلة الطبيعية التي أحدثت خللًا بنظام الكائنات الأخرى في عالمنا، ولا بانشغال علماء الطبيعة بمشاكل مخلفات البشر. التحذيرات من كل افتراضات المختصين لم تلق بالًا من قبل السلطات العالمية. إن الصراع الحقيقي الذي يشبُّ ما بين مدّة وأخرى هو صراع الوجود، وسببه الحقيقي هو الموراد المتاحة، فمتى كانت الموارد متوافرة وفائضة كان الهدوء والتعايش الطبيعي بين كل المخلوقات من بينها البشر، لأنهم كائنات مثل أي كائنات أخرى، تتأثر بما يحطيها ولا تختلف مطلقًا عن تلك الطيور التي غيّرت مسار هجرتها الموسمي، ولا يختلف عن الأسماك التي اختلت حرارة مياهها. بل إن الإنسان أول ما يفكر به هو تغيير مكانه من أجل الحفاظ على وجوده. إننا كأناس لم نرث الأرض التي نعيش عليها من أجدادنا، لأنهم في الحقيقة ليسوا أصحاب تلك الأرض، إنما جاؤوا من أماكن أخرى لأسباب تخصّ بقاءهم. وبسبب عواملٍ ما، غيّرت في أماكن تواجدهم الأولى، نزحوا إلى أماكن أخرى. ومن يدري أين سنكون لو حصل تغيّر ما وأجبرنا على المغادرة إلى أرض أكثر ملاءمة. هكذا هي دورة الوجود. حتى أسباب الحروب الأولى، هي محض صراعات على الموارد. لأن الموارد هي العنصر الحقيقي لاستمرارنا على وجه الأرض، وهي ما يجعلنا نتكاثر، وننقسم ونتباعد ثم نقترب فنتصارع على تلك الموارد من أجل أن نبقى.

في خضم ما نمر به الآن من أزمة الوباء، كان أول ما تأثر هو النفط، وهو المورد الاشهر عالميا منذ أكثر من مئة عام، هو الذي تنافست كل الدول عليه، ووضِعت الاتفاقيات قريبة وبعيدة الأمد من أجله، ثمة دول تقاتلت، وأخرى تنافست على استغلال الأراضي التي يتواجد فيها. كان النفط وما زال هو المورد الأهم كمصدر طاقة رغم تنافس بدائل الطاقة الأخرى، لكنه ما زال المؤثر في السوق العالمية. نجد أسعاره تتهاوى، وثمة حرب مستعرة رغم الانشغال العالمي بالوباء، ثمة حرب تدور حول أسعاره وإنتاجه. بعض الدول استثمرت انخفاضه وشرعت بشرائه، وأخرى تخسر في إنتاجه. والكثير من دول العالم صار النفط مشكلتها بعد مشكلة كورونا.

لقد أحال هذا الوباء – وهو سببٌ إلى الآن لم يتوصل أحدٌ إلى تفسير مبرراته النهائية – معركته إلى معارك أخرى سببها الموارد. وأظهرَ على أنه، وأي وباء محتمل آخر، إنه الأشد ضراوة في جعل بني البشر منقسمين ومتنافسين على البقاء، الموارد التي يعتمد عليها الوجود البشري تعدّ في مرحلةٍ ما أهمّ من البشرية نفسها، وتكون محلّ صدام كبير تختفي فيه القيم. ففي الولايات المتحدة، أقبل البعض على شراء نوعين من المنتجات: الغذاء والسلاح. ولا جدال في اختيار الغذاء كونه في الأهمية القصوى في فترة الحجر المفروضة من قبل الوباء. وهو الشيء الذي يمكّن الإنسان التفكير جيدًا لاتخاذ قرارات مفيدة في فترةٍ حرجة مثل هذه. لكن لماذا كان الاقبال على متاجر السلاح؟ انه الظن المُسبَق في تصوّر كل شيء سيء. فبعد ان خلتْ متاجر الاغذية في أول أيام الحجر، ورأى الكثيرون خلو تلك المتاجر مما يحتاجونه، وبث الكثير عبر صفحاتهم الإلكترونية مقاطع مصوّرة يستهجنون فيها الإقبال على الطعام. كان هنالك الكثير ممن ساورهم القلق في أن ذلك قد يأخذ وقتًا طويلًا، وأنّ الأحوال إذا اتجهت للأسوأ فلا يمكن لأحدٍ أن يتصوّر أنه في مرحلة نضوب الخبز (الموارد). يقابل ذلك صار السلاح شيئًا مهمًا في حماية الموارد الفردية والعائلية من مأكل مشرب. إنه درس قاسٍ بحق. وشيءٌ مفزع أن يتحوّل الإنسان رغم التحضر والمدنية إلى كائن بدائي مثله مثل أي حيوانٍ تدفعه غرائزه في حماية طعامه.

الموارد تتأثر في كل شيء. سواء كانت عبر الطرق الطبيعية، أو تلك التي صنعها الإنسان، أو تلك التي لم تخطر على بال أحدهم في كيفية مواجهتها مثل كورونا. وتؤثّر بدورها في كل شيء. تؤثر في القانون العام ويصبح في ليلة وضحاها مجرد عبارات مكتوبة لا قيمة لها. وتؤثر في المفاهيم الطبيعية التي تلقّاها الإنسان من محيطه الإيجابي. بل وتكون سبب صراع مأساوي فيما بين الأفراد والدول. توثر في تفكير الفرد على اتخاذ أسوأ القرارات في حياته، ولا يعد يؤمن بشيء اسمه إيجابية. وفي الواقع، انها متأثرة أيضًا مثل أي شيء على وجه الأرض بتلك العوامل المُغيّرة في وجودها أو جودتها. وتلك العوامل قد تحيلها هي أيضًا إلى سلاح تستعمله إزاء الوجود البشري بكامله، لتعيده إلى سيرته الأولى، كائنًا تتنازعه رغبة البقاء، ورمي القيم بكل أصنافها جانبًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد