كيف تشكل الكون علي وضعه الحالي؟ وكيف بدأ الخلق الإنساني؟ حَملَ لنا التاريخ بين طياته إرثًا ليس بالهين، حول خرافات وأساطير «ميثولوجيا الخَلق», وحسب اختلاف الحضارات والأديان حملت لنا كُل حقبة وحضارة تَصورًا خاصًا عن نشأة الكون والخلق، من منظور هذه الحضارة أو تلك, بدء من أساطير الخلق الفرعونية، مرورًا بأساطير الحضارة الصينية، وانتهاءًَ بالحضارة اليونانية.
ولكن ماذا يقول العلم الحديث في ذلك كله؟ دعنا نبدأ باستعراض قصة نشأة الكون من منظور الحضارات القديمة أولًا حتى نصل إلى رأي العلم في ذلك.
1- نشأة الخلق في الحضارة الصينية
في العهود المُظلِمةَ، منذ قَديم الأزل، كانت السماء والأرض صنوين، لا ينفصلان عن بعضهما البعض، وكان الفضاء في حالة من الفراغ يشبه البيضة الكَبيرة، التي تحمل في داخلها ظلامًا دامسًا، لا يمكن أن نحدد الاتجاهات من خلاله, أي لَم يَكُن هُناك وجود للمكان، كما نقول بالمنظور العلمي اليوم.
وعاش في تلك «البيضة الكبيرة» بطل عظيم يُدعي «بان جو» فصل الأرض عن السماء، واستفاق بان جو بعد 18 ألف سنة من النوم العميق، ولم يشاهد شيئًا غَير الظلام الحالك، وشعر بحرارة شديدة؛ حتى كاد يختنق، وكان يريد النهوض، لكن قشرة البيضة كانت تلف جسده بشدة، ولم يتمكن من مد يديه ورجليه، فغضب «بان جو» ثُم شَرعَ في كَسر تِلكَ البيضةَ، وبعد ذلك سمع صوتًا مدويًا، وانشقت البيضة فجأة، وتطايرت المواد الخفيفة والصافية إلى الأعلى؛ لتشكل السماء، وسقطت المواد الثقيلة والعكرة إلى الأسفل؛ لتكون الأرض.
ثُم وقف بين السماء والأرض، وكان طوله يزداد عشرة أمتار يوميًا، ويزداد ارتفاع السماء، وسمك الأرض، عشرة أمتار يوميًا أيضا، وظل «بان جو» على تلك الحال 18 ألف سنة، ثم أصبح ضخمًا جدًا, وبلغ طوله 45 ألف كيلومتر، وهكذا استقرت السماء والأرض أخيرًا، وبِذَلك أصبح مُمسِكًا للسماء والأرض بين طياته. ولكن طرأ شيء فجأة، ولم يستطع بدنه التحمل، وخارت قواه، وانهار جسده.
بان جو مُمْسِكًا السماء والأرض
وبعد وفاته، أضحَتَ عيناه الشَمس والقمر، وأنفاسه الأخيرة تحولت للرياح والسحب, وشعره ولحيته شكلوا النجوم وتحول رأسه وأطرافه الأربعة إلى أربعة أقطاب للأرض، وتحول دمه إلى أنهار وبحيرات، وتشَكلت الأمطار والندى من عرقه. وهكذا تَبلورت الدنيا على المنظور الذي عهدناه الآن, ولَكن ماذا تَقول الأسطورة الصينية في خَلق الإنسان؟
حَسنًا، كان هُنالِكَ إلهة تَشعر بالوحدة الشديدة، تتجول بين السماء والأرض، بعد أن فصلهما بان جو, تُدعى «نيوي وا».
وبينما تسير نيوي على ضفاف أحد الأنهار، في خضم شعورها بالوحدة والحزن, رأت انعكاسًا لصورة لها على الماء, فلم تتمالك نفسها من شِدةَ الفرحة، وقامت بإنشاء بعض الدمي من «الطين» ثم «نفخت فيها من روحها» ثم جعلتهم ذكورًا وإناثًا؛ خوفًا عليهم من أن يفنوا ويموتوا, وقاموا بالتزاوج، مكونين بذلك الجنس البشري.
2- نشأة الخلق في الحضارة اليونانية
لم يكن هناك سوى الفراغ، الفراغ فقط، ولم يكن فراغًا «كموميًا»، كما نُعرفه الآن، لا لم يكن هناك أي نوع من التنظيم، مجرد فراغ وفوضى، لم يكن هناك وجود للشمس والقمر، لم تكن هناك جبال وأنهار.
في الواقع لم تكن هناك حتى الأرض، كل ما كان موجودًا هو فراغ عظيم، حتى الزمن لم يكن موجودًا، ولكن لم تَدم هذه الحالة طويلًا؛ فقد قسم هذا الفراغ نفسه إلى إلهين, هما: «أوروانوس»، إله السماء. و«جايا» إلهة الأرض, وقد شرعت جايا في تشكيل الكون والأرض، وقد بسطت سيطرتها على الأرض بينما تتشكل.
الجبال فصلت عن السهول، والبحار والأنهار تشكلت، مثلما يرسم الفنان على اللوحة. «جايا» كانت مشغولة في خلق هذه التحفة الجميلة، لم يمر الكثير من الوقت، حتى بدأت «جايا» ترغب في الأولاد.
الإله أوروانوس والإلهة جايا
وتزوجت جايا من أوروانوس، وبذلك أصبحوا أول زوجين في هذا الكون, ومع الوقت ازدادت رغبة جايا في إنجاب الأولاد أكثر فأكثر؛ لمساعدتها في إعمار وحكم هذه الأرض البديعة, فقامت هي وأوروانوس بإنجاب العمالقة الخوارق، أو «التياتن»، وهم آلهة يشبهون البشر، قليلًا، ويمتلكون قدرات خارقة, و«الكولكلوبيس»، وقد كانوا عمالقة، كان لكل واحد منهم مائة يد، وخمسون رأس. فخشي أوروانوس على مُلكُه مِنهم؛ فقام بحبسهم في الأرض, وبهذا قامت الحروب في الأرض، وكانت جايا قد أحبتهم من أعماق قلبها، وغضبت لحبس أبيهم لهم؛ فقررت الانتقام منه، عن طريق قتله، على يد أصغر أبنائها، وأكثر المتحمسين لفكرة قتل أوروانوس، وتحرير إخوته، كان «كرونوس».
لقد كانت جايا لا تواجه أية صعوبة في التحدث لأبنائها في رحمها، وبهذا لم تجد صعوبة في إقناعهم بخطتها, وبذلك قام كرونوس بقتل أوروانوس عن طريق طعنه بمنجل, فلعنه أوروانوس وأخبره بأنه يومًا ما سوف يلقي نفس مصيره، وسيقوم أحد أبنائه بقتله.
وحرر كرونوس إخوته، ولهث وراء السلطة، بعد أن تزوج إحدى إخوته، وهي «ريا», ومع تقدم كرونوس في السن خشي من أن يلقي مصير والده على يد أحد أبنائه، فكان يقوم بابتلاع أولاده, فكلما ولدت ريا مولودًا جديدًا، في عام, يقوم كرونوس بالتظاهر بأنه يداعب الولد، ثم يقوم بابتلاعه.
أنجبت ريا «هستيا، ديميتر، هيرا، بوسيدون»، وابتلعهم كرونوس جميعًا. عندما ريا أحست باقتراب ولادتها مرة أخرى، تذكرت ماذا فعل كرونوس بأبنائها؛ فقررت أن تعزل مولودها «زيوس» عنه، وأرسلته إلى «أركاديا» وهناك كَبُر زيوس، وعاد؛ لكي ينتقم لإخوته، ويقتل أباه، وبالفعل قام بتسميم كرونوس، وأصبح سيدًا على إخوته، وقسم شؤون الكون عليهم.
وخلق زيوس البشر لتساعد الآلهة، ولكنها كانت تَحمِل مِنَ الكِبر ما لا يطاق، ومن التخاذل ما لا يحتمل، فقام زيوس بإبادتهم، وخلق جيل جديد.
ولكنه لم يكن بمنأى عن سابقه، من الضعف والتخاذل، فأرسل عليهم زيوس طوفانًا لكي يبيدهم, وبالفعل أبادهم. ونجا من هذا الطوفان رجل وزوجته، وقد قاما ـ بعد ذلك ـ بمساعدة جايا في إعادة إعمار الأرض، وإعادة إنتاج الجنس البشري.
3- نشأة الخلق في الحضارة الفرعونية
تعددت الآراء إبان نشـأة الخلق، بالنسبة للحضارة الفرعونية، ولكنها تفرعت إلى ثلاث نظريات، تُنسَب كُل نظرية منها إلى مدينة مختلفة، ولكننا سنستعرض النظرية التي تغلبت على نظائرها، وهي أسطورة «هليوبلس».
والتي توصف الكون على أنه نشأ من بحر مياه أزلي يُسمى «نون»، وهذا الماء كان يحمل بين طياته الخير والشر، ويحوي البذرة لكل ما هو حي، في حين كانت قوى الشر تقطن الحية العظيمة «أبوفيس»، لكن في لحظة ما خرج الإله «آتوم» من ذلك البحر، فرفع الأرض من رحم البحر، وأصعدت الآلهة «رع»؛ لكي تشكل الشمس.
ثم أنجب أتوم مع رع طفلين، هما: «تيفنوت»، كانت إلهة الخصب. و«شو»، إله الريح والهواء، ولكن الطفلين اختفيا فجأة، فأرسل «آتوم» عينيه الإلهية لتبحث عن الأطفال، ولما وجدتهم بكى آتوم من الفرح،
فشكلت دموعه البشر الأوائل.
أحب «شو» «تيفنوت»، وتزوجا وأنجبا أولاد توائم، فكان الأول «نوت، والذي أصبح إله السماء، والثاني جيب، والتي أصبحت إله الأرض».
ولكن ماذا يقول العلم الحديث في نشأة الكون وبداية الخلق؟ حسنًا إنها عملية معقدة وصعبة الشرح والتبسيط، وإذا شرعنا في الحديث عنها فلن يسعفنا الورق، ولا الوقت, ولكن دعنا نحصرها في شقين, الأول، وهو «الانفجار العظيم»، والشِق الثاني، «الخلية الأولي، ونظرية التطور»، مع وضع شرح مبسط لهما، على أن نقوم بالاستفاضة في الشِق الثاني، في مقالٍ آخر.
4- الانفجار العظيم
وهي تلك النظرية التي تصف كيف نشأ الكون منذ 13.8 مليار عام، عن طريق «المتفردة» التي كانت تحمل جميع القوى الأساسية في الكون، وكانت تلك المتفردة، التي نشأ منها كل شيء متناهية الحرارة، وشديدة الكثافة، وحدث ذلك في ظلمة تامة، حيث لم يكن هناك وجود للضوء، ولم يكن هناك وجود للمكان أيضًا, ثم تمددت لتشكل الكون.
أخذت الحرارة في الانخفاض، بانخفاض الكثافة، وبرد الكون، وأخذ في التمدد، وأخذت حرارته في الانخفاض ليشكل «المادة» و«المادة المضادة»، وعندما تلتقيان فإنهما يفنيان بعضهما البعض، ويحدثان وميضًا, ولكن هناك مادة في الكون أكثر من المادة المضادة، وذلك من حسن حظنا؛ لأن الذي بقي من إفناء المادة والمادة المضادة لبعضهما البعض هو ما شكل الكون الحالي, وبعد ذلك تلاشى الغبار، وأصبح الكون مرئيًا. ثم بدأت الجاذبية بتجميع غاز الهيدروجين والهيليوم في سحب كبيرة لتكون النجوم والمجرات.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست