تضيق ذرعًا بأشهر باردة وتشتاق إلى شيء من الدفء يسري في عروقك وتحتفي به عظامك، فبعد استبشارك بشيء من ذلك أواخر فبراير (شباط)، يأتيك العم مارس (آذار) ليثبت لك صحة ما قاله عجائزنا: «خبي حطباتك الكبار لعمك آذار».

سطعت الشمس في أبريل (نيسان) وتجاوز مؤشر الحرارة حاجز الخمس عشرة درجات مئوية (سيليزية)، وبزغت أوراق الأشجار من براعمها معلنة طي صفحة البيات الشتوي واكتست الحدائق بثوب موشىً بأجمل الألوان مع تفتح الورود والأزهار. فهل آن الأوان حقًا لخلع تلك الملابس الثقيلة التي لازمتنا دهرًا طويلًا مذ هبت رياح الخريف الباردة واضطرتنا للتشرنق بها؟ هل سننطلق في مناكبها خفافًا لا ثقالًا؟

يصدمك بعضهم بالقول: احذر عقارب نيسان! فتتذكر معها ما يسمونه «كذبة نيسان»، فتتملكك حيرة وخشية أن تكون تلك العقارب جزءًا من الأكاذيب المنسوبة لنيسان، وليست تلك العقارب إلا أيامًا يلسعك بردها الشديد، فكيف بعقارب سمّها زعاف يسري طوال الأيام والأشهر والسنوات؟!

كنا فيما مضى من العمر نتندر بأن شعوب العالم التي يغلب عليها الاختلاف والتنافر في هذا الزمان الرمادي يتفق الكثير منها على تخصيص يوم عالمي للكذب والرضا به وبتداعياته على اعتبار أنه «كذب أبيض» وغفلنا حينها عن أكبر كذبة مرت علينا بأن القوم لا يكذبون جهارًا نهارًا إلا أول أبريل فيما هم يتنفسون الكذب، وهو لهم هواء وماء وغذاء!

أضحى كل شيء من حولنا ينضح كذبًا إلا ما رحم ربي، فأكثر الحكام يتفننون في الكذب والدجل على شعوبهم وليس أدل على ذلك من مجرم سوريا الذي قتل أكثر من نصف مليون وشرد عشرات الملايين تحت مظلة كذبة كبيرة أسماها المؤامرة الكونية على بلده! وقد رأينا ولمسنا كيف أطاح سيل الكذب الجارف بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي ليحل محله كذاب أشر يوشك أن يدخل مصر في دهاليز مظلمة لا آخر لها، وتجرعنا غصص إعلامه الكاذب الذي طفح بأشنع الأكاذيب خاصة ما تعلق منها بالمقاومة الفلسطينية وقطاع غزة المحاصر مصريًا وصهيونيًا.

لم يقف الأمر عند أولئك فالأسوأ منهم كانت شرذمة استسهلت الكذب مطية لمآرب شخصية وضيعة بائسة، كان منهم بعض الناطقين باسم سلطة عباس كأسامة القواسمي الذي تماهى مع أكاذيب انقلابيي السيسي فأخذ يصرخ مستهجنًا ومستنكرًا تورط حماس بما زعمه اغتيال المستشار المصري هشام بركات، وحاول جبريل الرجوب مجاراته في فتح النار على حركة حماس ونسج أضاليل وأكاذيب مفضوحة مكشوفة، ولا عجب فرئيسهم الذي علمهم الكذب لم يستحِ من الظهور مؤخرًا مع وفد يهودي باركه حاخامهم وأهدوه تمثالًا نصفيًا تكريمًا وتمجيدًا لجهوده في محاربة المقاومة وانتفاضة الأقصى كما تبجح بذلك لصحفية يهودية بأن أجهزته الأمنية تفتش حقائب التلاميذ بحثًا عن السكاكين وأنهم عثروا على أكثر من خمسين سكينًا في مدرسة واحدة، ومن قبل تفاخر هو ومدير مخابراته ماجد فرج بإحباط أكثر من مئتي عملية طعن! وكل ذلك وأكثر منه يشي بأن القوم لا يصدقون مع بني صهيون بل إنهم يتحرون الصدق في كل ما يتعلق بتنسيقهم الأمني ويبلغون بأكثر مما يريده الأعداء منهم. غير أن الشعب الفلسطيني المبتلى بهم يعلم علم اليقين أن أكبر كذبة يمكن أن يمررها أولئك بأنهم حريصون على مصالحه وأنهم يسعون حقًا لتحرير الأقصى والقدس من الاحتلال الصهيوني أو أنهم حريصون على طي ملف الانقسام الداخلي. إنهم نموذج لتلك الكائنات التي لا تحيا إلا في بيئة آسنة لا تتنفس فيها إلا غاز «الكذبجين» لتملأ الفضاء بزفيرها من غازات «البهتانجين» و «الإفكجين»!

هو الكذب الذي تغلغل إلى مفاصل حياتنا بعد أن برع السياسيون في جعله عمود السياسة الفقاري حتى غدا تعريفها هو فن ممارسة الخداع والكذب والتلون واستغفال الناس! لاعجب إذًا أن يطغى الكذب على الإعلام ويؤصل للكذب تأصيلًا لتغدو «الكاميرا الخفية» سيدة الكاميرات وافتعال أي شيء كذبًا وخداعًا و«استهبالًا» تحت ذلك المسمى مباحًا ولا غضاضة فيه!

تغلغل الكذب لتنضح ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعية بالكذب بكل وجوهه وأشكاله وأساليبه مما جعلها حقيقة مواقع للتقاطع الاجتماعي والنزاع الأسري والتشوه الفكري بعد أن أضحت مرتعًا لكل مرضى النفوس أن يبثوا كذبهم وأضاليلهم حتى باسم الدين ومنهم خوارج هذا العصر وليس بعيدًا عنهم أصحاب المشروع الصفوي الإيراني البغيض القائم على أفحش الكذب وأقذره، ولم لا وهم الذين تولوا كبره ونصبوا ابن سلول قائدًا وقدوة لهم بالطعن في عرض أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق الطاهرة المطهرة المبرأة في كتاب الله الذي «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد». ذلك الكتاب الحق الذي توعد المكذبين بالويل والثبور، فوردت فيه آية «ويل يومئذٍ للمكذبين» أحد عشر مرة لتقرع الآذان وتهز العقول والأبدان ويتزلزل معها الجنَان والوجدان خوفًا وهلعًا من النيران.

أمام كم الكذب الهائل الذي يسمّم فضاءاتنا لا يمكن لكذبة أبريل (نيسان) أن تنطلي علينا بأنها الكذبة الوحيدة اليتيمة لمن أدمن الكذب واستمرأه فقد حذرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: «عليكم بالصِّدقِ. فإنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البرِّ. وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّةِ. وما يزالُ الرَّجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتبَ عند اللهِ صِدِّيقًا. وإيَّاكم والكذِبَ. فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفجورِ. وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النَّارِ. وما يزالُ الرَّجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِبَ حتَّى يُكتبَ عند اللهِ كذَّابًا». (صحيح مسلم).

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد