الفارقُ كبيرٌ بين ذلك الذي يتعثر فيداوي عثرته، ويشحذ همّته، ويعدل من سيره ويُكمل، وبين ذلك الذي يتعثر فيسقط، فيفترش ويسترخي في تلك الحفرة المظلمة، وكأنه يختبر قدرته على تحمل الألم أو يسعى لأن يكتشف مكامن البطولة في نفسه الراكدة.
ذلك هو الفارق نفسه بين ثقافة التعامل مع المحنة وثقافة المحنة. إن المفاهيم البراقة والمغلوطة في الوقت ذاته هي ما أسهمت بقوة في غرس تلك الثقافة في نفوس كثير ممن بدأوا مسيرتهم من مائة عام وأكثر ولا يزالون حتى هذه اللحظة في نفس النقطة أو في نقطة قريبة، فهم امتلكوا الوقود الدافع لهم وفقدوا القائد والقيادة، وأهمية الهدف – وإن بدا غير ذلك – فلم يزالوا راكدين.
من أجل ذلك كان السقوط هو المنتج الطبيعي والخطوة التي لا مناص عنها لمن يعتقدون في كل ابتلاء اصطفاء وفي كل محنة منحة، ولم يدركوا أن هناك شيئا ما في سنن الكون والناس يُدعى العقوبة والجزاء. إن ثقافة الأول والتعامل مع المحنة هي الأرض الخصبة التي قد تنمو فيها الأفكار السديدة الرشيدة أو الأفكار السيئة المريضة، ولكن على أية حال فلن تنمو لا هذه ولا تلك في أرض بوار.
في عام ١٩١٩ خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الأولى وقد فقدت كل شيء إلا شيئا واحدا، ثقافة الأول، وبدون الخوض في تفصيلات يعلمها الكثيرون إلا إنها في السنين القلائل التالية كانت ألمانيا تتزعم شطر أوروبا وأكثر ولم يكن هذا من قبيل الصدفة المحضة التي تحدث لأناس جاهلين، فقدت تعرضت ألمانيا لنفس السقوط بعد الحرب العالمية الثانية وانتُزع سلاحها، واحتلت أراضيها، وانتحر زعيمها، وانقسمت برلين بحائط منيع إلى شرقية وغربية، إلا أن كل هذا هدّته معاولُ الثقافة الراجحة في فترة يستعصي على من زعموا الحضارة ومجّدوا الآباءَ أن يبنوا فيها هرما رابعا.
على النقيض من ذلك، فإن هناك الكثيرُ الكثيرُ ممن تبنّوا الثقافة الأخرى -ثقافة المحنة- وانخرطوا في متاهتها وغرست أقدامُهم في أوحالها لم تصبهم أزمة حقيقية أو حدثٌ مدمِّر أو نكبة كبرى مثل التي أصابت ألمانيا ومن على شاكلتها ومع ذلك فهم -ومنذ أمدٍ بعيد- في آخر مقعدٍ من آخر عربةٍ في قطار الحياة الكريمة وقد أنقذتهم بعض المياه السوداء التي طفحت على غير قصدٍ منهم أو ترتيبٍ من أن تدهسهم عجلات القطار وإن لم يكن ذلك منهم ببعيد.
لقد أفسح الجميع لنا حلبة الصراع لنقاتل فيها من أجل أفكار قد تكون صحيحة أو غير ذلك، في بطولة لا ينال الرابح فيها غير ميدالية زائفة أو مقعد منكسر ليس له أي ثمن خارج هذه الحبال المشدودة، غير أن هذه الحبال هي حدود البطولة التي لم يعرفوا غيرها.
ولا عجب إذن أن تجد أصحاب العاهات العقلية الواضحة أن يفتخروا ببطولاتهم داخل هذه الحلبة، وبسقطاتهم الواحدة تلو الأخرى على السواء، فلم تكن هذه -من وجهه نظرهم- إلا ضريبة لتلك، وفي النهاية ما كانت السقطة ولا البطولة ليمثلان في عالم الناس شيئا. إن من اعتقدوا ثقافة المحنة عاشوا وماتوا داخل هذه الدائرة المظلمة والمتكررة غير آبهين بكل الإشارات ولا المنبهات المحيطة فأولئك من أُشربوا في قلوبهم المحنة لا يعرفون بطولة في غيرها، أما من اعتقدوا ثقافة الخروج منها فقد أخذت معتقداتهم بيدهم إلى خارج السينمات والأضواء الخافتة والمشاهد المؤثرة إلى عالم البطولة الحقيقية والمسرح الكبير.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست