لقد كانت الوضعية المنطقية قد أسرت قلوب أساطين من مجالي الرياضيات والعلوم الطبيعية، وأصبحت كلمة «الفلسفة التحليلة» و«الوضعية المنطقية» سواء. وخُيل إلى أصحابها أن موكب العلوم والرياضيات سينعم ويعيش في وئام بعد ما تملص من مزعجات الفلسفة القديمة، بينما كان كل شيء على ما يرام، إذ بدأ يشعر أصحاب الوضعية المنطقية أنفسهم بالنقص وما يدعو إلى نقدها، فانقشعت سحائب التفاؤل، وأصبح النظام الوضعي المنطقي في شمس النقد الحاد. وبدأت تفقد الشعبية لدى الفلاسفة عند قرابة منتصف القرن العشرين، ونفقت في غضون عقدين تقريبًا، ولم تعد مدرسة مستقلة ولكن هذا لايعني أنها لم تخلف أثرًا، فقلما تنفق المدرسة الفكرية بغير أن تؤثر فيما بعدها من المدارسة الفكرية. ولنذكر بعض النقود فيما يلي:[2]
المبحث الأول: أكل الميزان الوضعي المنطقي لنفسه.
أول عائق كبير في طريق الوضعية المنطقية أن قولهم: «كل دعوى من قبل ما بعد الطبيعة لاتقبل» بنفسه من قبيل «ما بعد الطبيعة» على حسب تعريفهم هم لما بعد الطبيعة.
المبحث الثاني: عدم وفاء قضايا العلوم الطبيعية بهذا الميزان.
ثم أشد نقد وألذعه للميزان الوضعي المنطقي جاء ممن أسسه ورباه واحتضنه في دفء حجره. وهذا غريب جدًا. فإنا إذا قلنا: «لانقبل شيئًا إلا بعد ما تحققنا منه»، فلا ضير فيه. بل هو عين ما نريده. فما الذي حدا أصحاب الوضعية المنطقية أنفسهم إلى هذا النقد. فجاء كارل بوبر (28 يوليو/ تموز 1902 في فينا – 17 سبتمبر/أيلول 1994 في لندن) وألفريد جول أير (29 أكتوبر/ تشرين الأول 1910 – 27 يونيو/ حزيران 1989) وكان النقد منهما أن هذا الميزان لايفي به العلوم الطبيعية نفسها. فالنواميس والنظريات الطبيعية التي نصوغها بعد التجربة لا تثبت أمام سهام نقد الوضعية المنطقية. فإنا لا نستطيع أن نستوثق بالتجربة من هذه النواميس والنظريات.
ولم يدع كارل بوبر أنه أبو عذرة هذا النقد، بل عزاه إلى ديفيد هيوم، وأعلن أنه عرض ذلك قبل قرون.
والمثال المتداول لتوضيح هذا النقد هو التم أو الإوز الكبير الذي ظلت أوروبا الغربية تقول بأنه ليس إلا أبيض. بل أصبح رمزًا للبياض واستعارة. فكان الناس يقولون: «إن عيون فلان بيضاء مثل الإوز»، لم يكن يخطر لهم ببال أنه يمكن أن يكون نوعًا من الإوز غير أبيض. ثم بدأت أوروبا الغربية ترحل وتجول وتكشف عن مناطق جديدة، فإذا بأصحابها في أستراليا أمام إوز أسود. فكانوا يوقنون بأن الإوز أبيض، بل لو سأل وقال قائل: «هل من أوز غير أبيض»، لعدوا ذلك خرافة، لقد شاهدوا آلاف آلاف الإوز عبر قرون متطاولة وهي بيضاء. ولكن انتهوا إلى أن ظروفهم التي أحاطت بهم لم تكن تعرف إلا الأبيض من الإوز. ولكن الأمر كما قال شاعر العرب:
«الليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبة.»
فالعالم أوسع مما تخيلوا، وكان فيه في غير ما ألفوه وقطنوه من الأرض إوز غير أبيض.
وهكذا الحال في النواميس والنظريات الطبيعية. مهما بذلنا جهدًا، لم نستطع أن يتأكد لنا أن نحكم على ما لم نشاهده لا تجريبيًّا ولامنطقيًّا. فهل هذا يعني أن العلوم التجربية تقل قدرًا وبهاء؟
قال كارل بوبر: «لا» والسبب أن مهمة العلوم ليست التصديق. بل وظيفتها التكذيب والتغليط. ولو تشبثنا بما قال أوائل أصحاب الوضعية المنطقية بميزان التحقق، لأودينا بحياة العلوم نفسها. ولكن إذا جعلنا مهمة العلوم هي التكذيب وحده، أنجينا العلوم إلى بر الأمان من زوبعة الهلاك.
ملحوظة: لقد مرت الإشارة إلى هذا الاعتراض قبل ذلك.
المبحث الثالث: نقد التفريق بين التحليل والتركيب.
وضع ويلارد فان أورمان كواين (يُعرف بين المقربين إليه باسم «فان»؛ 25 يونيو 1908 – 25 ديسمبر 2000) رسالة بعنوان «عقيدتان في التجريبية» وهو يعد من مفكري ما بعد الحداثة. ورسالته هذه يعدها بعض الناس تاريخ نعي «الوضعية المنطقية» بالضبط. ولقد ضرب في أساس من أسس الوضعية المنطقية بفأس نقده الصارمة أحدهما التفريق بين التحليل والتركيب تفريقًا حاد الملامح، توارثنا عن عصر التنوير.
وتفسير هذا الإجمال أن مفكري عصر التنوير اقتنعوا بأن في جعبتنا ما نستطيع أن نحتكم إليه للتحقق من شأن العلم والمعرفة. وهما التحليل والتركيب. وهما الموثوق بهما في مجال المعرفة. فجلية مكانة هذا المبدأ عند أصحاب الوضعية المنطقية الذين هم أنفسهم بصدد الميزان الموثوق به للتحقق من المعرفة والعلم. والمفروض في هذا المبدأ أن التحليل يمتاز عن التركيب تمامًا. فإذا وصفنا قضية بأنه قبلية، فالقصد أننا حصلنا عليها قبل أي نوع من التجربة. فإذا قلت: «كل عزب غير متزوج»، عرفنا صدقها بحكم معرفتنا بطرفيها بمعرفتنا لمعنى «عزب» ومعنى «متزوج»، ولانلجأ لأجل ذلك إلى تجربة. وإذا قلت: «فلان يبكي في الزقاق»، فالمفروض أنها بعدية بمعنى أن السامع يستطيع أن يتحقق من صدقها بأن يذهب إلى الزقاق وينظر أكان فيه فلان باكيًا أم لا؟
لقد آمن المفكرون التنويريون بهذه التفرقة الحادة منذ قرون كما آمن أصحاب الديانات بكتبها المقدسة. ولكن وضع «فان» هذه التفرقة تحت مجهر النقد وسأل: «أحقًّا هذه التفرقة المزعومة جارية في كل حال؟»
هل حقًّا «كون العزب غير متزوج» نستغني في معرفة صدقها عن التجربة من كل وجه؟ أو هناك حاجة إلى التجربة ولو من وجه ضئيل؟ فمثلًا كيف عرفنا ما العزب؟ وما معنى كون واحد غير متزوج؟ ثم من أين لنا أن المتزوج في هذا السياق يشير إلى علاقة بين الرجل والمرأة لا إلى مجرد علاقة؟
وسأل في الجانب المعاكس عن مثل قولنا: «فلان يبكي في الزقاق» وقال: «أليس ما يسمى بمعطيات الحواس لامعنى له بغير أن يعطيها فكرنا إطارًا فكريًّا ويضعها في سياق». ألسنا إذا تحققنا من بكاء فلان في الزقاق، نحمل على ظهور فكرنا قناطير مقنطرة من التجارب والمشاهدات الماضية التي قد خرجت من نطاق التجربة وأصبحت جزءًا لايتجزأ من فكرنا وهي التي تعيننا على هذا التحقق. مثل هذا يقال في كل كلمة، زعمت بعدية.
فهذه التفرقة بين الاثنين تنهار بعد هذا التحليل من «فان». فالآصرة بينهما آصرة تكامل لا تباين.
المبحث الرابع: أن المنهج العلمي المقبول في عصر ما هو موكول إلى عناصر ثقافية:
ثم جاءت نوبة ما كان يؤمن به أصحاب الوضعية المنطقية من أن العلوم الطبيعية هي رسل الحقيقة المطلقة دون سواها وسفر الصدق حول الكون. فأصبح الناس ينظرون إليه بعين ريبة. وكان من أكبر من ارتاب فيه وانتقده هو توماس صاموئيل كون (أو كوهن) (18 يوليو / تموز 1922 – 17 يونيو / حزيران 1996) في كتابه «بنية الثورات العلمية» كان مؤرخ العلوم وفيلسوفها. فجاء من وجهة بديعة.
لقد كان الفكرة المقبولة السائدة أن موكب العلوم يسير على خط مستقيم، فكل من تلا بنى على من سبق. فالنظرة العلمية السائدة هي تدرجية ترقية تراكمية. وكان دليل كل رجل علوم هو عقله وقوته الإبداعية والمنهج العلمي.
ولكن وقف «كون» موقفًا مختلفًا وهو أن تاريخ العلوم هو تاريخ الثورات العلمية. وما بين كل ثورتين يقوم العلماء بالممارسة العادية للعلوم حتى ينتهوا إلى ثورة. فهذه العملية تتكرر في تاريخ العلوم.
فموكب العلوم يسير بهدوء حتى يعترض طريقها أسئلة لا يمكن الجواب عنها في الإطار السائد وقضايا شائكة، لايمكن حلها في المنهج المتبع، ويضحي لدى العلماء والناس ارتياب من المنهج ثم يأس منه في مواجهة المستجدات المعضلات التي تعجز عنها العلوم السائدة. هنالك تثور ثورة علمية جديدة، فينبذ المعاهد العلمية والمفكرون المقدمات والمناهج والطرق التي تكون سائدةً. وتفصل عبر العصر الجديد عن العصر المنصرم.
فكان النظام السائد – مثلًا – قبل ثورة كوبرنيكس ونيوتن هو النظام الأرسطي البطليموسي. وكانت النظرة السائدة هي محورية الأرض في هذا الكون. ثم استجدت مناظير وقويت، ودق علم الناس على قدم التجربة بمواقع النجوم وحركاتها، فازداد النظام البطليموسي تعقدًا والتواء، وأصبح يواجه ظواهر، لم يعد في متناوله أن يجيب عنها إجابة مقنعة متماسكة، فحاول الناس ترقيع النظام وإلحاق ملحقات وإضافات، ولكنه زاد الطين بلة. ثم جاء كوبرنيكس ووضع نظرية محورية الأرض موضع السؤال والنقد، وقدم نظرة أن السماء هي قطب الرحى دون الأرض. ولكن ما قدم من هيئة العالم والسيارات والتدويرات وأفلاكها استلزم ما لا ينسجم مع النظام البطلوميسي السائد. لذلك حينما جاء كوبرنيكس بهذه النظرة في عصره سنة 1543، ظُنَّ صاحبَ علوم زائفة. ويرى «كون» أنه كان من حق العلماء أن يظنوا ذلك بحكم ما كان سائدًا من النظام، فقد كان منافيًا لكل ما يسمى بالعلوم الموثوق بها في عصره. لاشك أنه صعب جدًّا التمييز بين العلم الزائف والعلم الحقيقي. ولكن عصره لم يكن قد استعد لتقبل آرائه، ولم يكن الاشمئزاز من المنهج السائد قد اختمر، فعد ما قاله كوبرنيكس ضربًا من الزيف. ثم ظهر جيليليو، وقدم أعماله البديعة في الحركة والاحتكاك، ولكن نظرياته أيضًا كانت يعوزها دعامة من الإثبات. غير أن أعماله تقدمت شيئًا ما في تمهيد العقول لتقبل الآراء الجديدة. ثم جاء يوهانز كيبلر[3] (27 ديسمبر / كانون الأول 1571 – 15 نوفمبر / تشرين الثاني 1630) بنواميس حركة السيارات، وثمد الأرض لقبول البذور التي بذرها من سبقه من جاليليو وكوبرنيكس. حتى جاء إسحاق نيوتن واستخرج من قوانين كيبلر الثلاثة نظرية الحركة، وأكمل تخمير الثورة التي بدأت تختمر شيئًا فشيئًا من كوبرنيكس، وانقلبت أوضاع العلوم، وعاد مأنوسًا ما كان غريبًا، وأضحى غريبًا ما كان مأنوسًا.
فالنقطة التي يريد «كون» إبرازها أن العلوم لم تكن كومة متراكمة من الجهود عبر القرون المتطاولة. بل تاريخها يتخلله تغييرات جذرية، طلقت ما قبلها، وانعطف موكب العلوم انعطافًا شديدًا، لم يعد متاحًا معه أن يوسم بأنه استمرار للماضي وحلقة من سلسلة أمس، فتتغير المناهج، وتتحول الفروض التي يقوم عليها صرح العلوم.
والكلام نفسه يقال عندما جاء ألبرت أينشتاين.
فلا يبقى بعد الثورة ماقبلها مقياسًا لما بعدها، فالأطر والموازين والمقاييس تتغير تمامًا. هذا والثورة العلمية تغير تعريف العالم أيضًا. فمن كان يعد دجالًا أو منبوذًا في دائرة العلوم، يعود هو مثل العالم ومقياس العلم بعدما تثور الثورة. والثورة العلمية تحول الأسئلة التي هي جديرة دون غيرها بالاهتمام في دائرة العلوم. بل إنها تستبدل بالمصطلحات العلمية مصطلحات جديدة. وهذا لا يعني التغيير في التعبير فحسب، بل يشوه أيضًا صورة من سبق من العلماء في عيني العالم الذي يأتي بعد الثورة وقد تغيرت المصطلحات. فكلمة «الجاذبية» تختلف عند عالم اليوم عما كانت عليه في عصر نيوتن. فلا يمكن أن نترجم مصطلحات عصر من عصور العلوم إلى مصطلحات عصرٍ آخر كما نترجم اسم «رمان» – مثلًا – من لغة إلى أخرى.
فيسنتنج «كون» من هذا أن تقدم العلوم ليس نتيجة عن العقلية، بل هو نتيجة تغيير عوامل المجتمع. فالأمر الذي يهمنا في مجال الوضعية المنطقية هو أن العلوم إذا كانت تتأثر بالعوامل الاجتماعية، فما يكون تأثير ذلك على الميزان الذي يحتكم إليه الوضعي المنطقي؟ وكان جواب «كون» أن الوضعية المنطقية لا تجيب عن هذا السؤال، فإن الميزان في إثر الثورة العلمية المفعولة بالعوامل الاجتماعية أيضًا يتغير. فالميزان أيضًا يتحدد بسياق المجتمع الذي ينتمي إليه الوضعي المنطقي. حتى ميزان كارل بوبر الذي هو طريقة التغليط والتكذيب لايستقيم هنا أيضًا. فإن ما يكذبه ميزان اليوم لعل يحجم عن هذا التكذيب ما يأتي من ميزان جديد.
[1] مقالة الوضعية المنطقية لموسوعة بريتانيكا.
[2] هذه النقود كلها مأخوذة من المحاضرة المتعلقة بالوضعية المنطقية في سلسلة “Philosophize This”
[3] بالألمانية: Johannes Kepler
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست