اكتشف كهنة الكنائس الشرقية حجم الخطأ الذي ارتكبه أجدادهم في حق الرب (يسوع)! حينما لم يسمعوا لأمثال المعلم يعقوب في دعواهم بمناصرة الجيوش الصليبية التي تتتابع على الشرق الأوسط؛ ابتغاء تمزيق دولة الخلافة، ذلك الكيان السياسي القائم من قلب الشريعة الإسلامية ليضمن للمسلمين من مختلف الثقافات والحضارات وحدة سياسية واجتماعية، استعصت على كل عمليات التمزيق والتفتيت طوال أكثر من ألف عام قاد فيه الإسلام المسلمين والعالم نحو صورة من صور الوحدة الإنسانية، التي ترفض كل صور التمييز العرقي أو الجنسي، وتعلن محاربتها مبدأ (فرق تسد)، الذي ترفعه حضارات وثقافات ترى لنفسها احتكار التفوق النوعي على سائر الناس، وتعتبر موارد غيرهم ومقدرات سواهم من الشعوب والأمم كلأ مباحا، ومستعمرات تفريخ؛ من أجل ضمان حياة الجنس المتفوق بلونه أو طبيعة دمه أو معتقده، أو أي من خزعبلات الغرب الذي لم يستح يوما من صبغ سخافاته بصبغة الفلسفة، حين كان عصر الفلسفة، ثم بصبغة النصرانية، حين كان عصر النصرانية الغربية، ثم بصبغة العلم الآلي، حين أسقط الغرب الفلسفة والدين، واعتبروا العلم الآلي الصورة الحقيقية للمعرفة الإنسانية.

لقد كان أمثال هذه الآفات الفكرية دوما العدو الرئيس للإسلام، فحارب هذا الفيروس حينما كان كسرويا، حتى مزق الله كسرى شر ممزق، ثم حارب الإسلام الفيروس قيصريا، حتى أخزى الله قيصر، ولم يزل الإسلام يحارب الطاغوت، لا يلتفت إلى بريق شعاراته الزائفة، التي تجعل من إمبراطور أو ملك أو أمير أو حتى رئيس جمهورية إلها يمنح الجنس الأبيض حق السيادة، ويمنح سائر الأجناس حق الحياة.

كذلك حينما اضطر الطواغيت إلى تحرير رقاب الشعوب الملونة؛ كي تستغل هذه الرقاب في عمالة المصانع، أوالتجنيد الإجباري، أو حتى للقيام بأعباء الشراء الاستهلاكي، كان الإسلام، بكيانه السياسي (دولة الخلافة) بالمرصاد، يبشر الناس بكل ما بات يبشر به الغرب، ولكن الإسلام فعل ذلك باعتباره حق الإنسان الذي كرمه الله، بينما فعل الغرب ذلك باعتباره منحة الرجل الأبيض للعالمين!

لقد فهم كهنة الكنيسة الشرقية أن وقوفهم على الحياد في الصراع الدائر بين الخلافة والصليبية الغربية (المتلونة في شعاراتها رغم ثباتها على الهدف والجوهر) كان سببا في حماية نصارى الشرق من أطماع صليبيي الغرب، ولكنه كان خطأ من جهة تحول كثير من النصارى إلى الإسلام، كلما شوهدت انتصارات المسلمين عبر مئات السنين، ومع ذلك لم يجرؤ أحدهم على تأليه نفسه من دون الله، ولم يفعل أحد ذلك إلاتصدى له المسلمون أنفسهم، حتى ينقطع دابر دعوته، لقد كاد الشرق يصبح مسلما خالص الإسلام، إلا بقايا ممن دفن رأسه في رمال من أقوال السابقين حتى لا يرى شعاع الإسلام – عقيدة وشريعة ، ودولة ومجتمعا – يبهر عيون الناس إشراقا مديدا مستمرا، كلما انطفأت جذوة حامل له، تبعتها جذوة أخرى لحامل آخر، حتى أصبح من مسلمات الفكر في منطقة الشرق أن الدولة واحدة والمسئول فيها متغير.

لقد أصبح كثير من الناس في الشرق يخلطون بين مفهومي:(الدولة والبلد /المجتمع)؛ بسبب طول ثبات دولة الخلافة، بأفكارها وأهدافها، على الرغم من تغير رجالها، فبات مفهوم الدولة وكأنه يساوي المجتمع والحضارة، وهذا غير حاصل في أي مكان آخر؛ إذ كلما يرث الناس قوم من السياسيين أقاموا دولتهم، التي تستمر بوجودهم، ثم تزول معهم لترثها دولة أخرى بسياسيين آخرين، وهكذا.

أصبح كهنة الكنائس الشرقية، على ما بينهم من ضغينة وتضاد في الدين والعقيدة والانتماء، بل الإله المعبود أيضا، بين خيارين، أحلاهما مر:

فإما أن يعاونوا أعداء دينهم من كهنة الكنائس الغربية على تدمير دولة الخلافة، ومن ثم وقوعهم تحت رحمة مطامع صليبيي الغرب في الشرق، والتي تبدأ من رغبتهم في امتلاك كل خيرات الشرق، وتنتهي عند امتلاك نصارى الشرق واستمالتهم إلى إلههم المعبود، والذي يغاير إله الكنيسة الشرقية، وتعبيدهم لكتب الغرب المقدسة، والتي تخالف كتب الشرق المقدسة، وإدراجهم في خدمة كنائس الغرب التي تبغض كنائس الشرق، وإن اتحدوا تحت اسم المسيحية، ولكن اختلفوا في كل شيء ما خلا ذلك.

وإما أن يستمروا على خطتهم في الوقوف على الحياد من الصراع الدموي المحموم بين الطامعين الغربيين في مقدرات الأمم، المستغلين لكل شعار أو قيمة خلقية أو دينية أو علمية لخدمة أطماعهم، وبين دولة الخلافة التي يمر بها فترات قوة وضعف شأنها في ذلك شأن كل كيان سياسي، وائتلاف اجتماعي، وهي مع ذلك تمثل بقيمها وقوة اجتماعها العقبة الكئود في وجه الغربي الطماع، كما تمثل مصدر الجذب الرهيب لكل طالب حق، وراغب في معرفة الحقيقة والبحث عن دين الله، حتى كادت النصرانية في أرض الخلافة تكون بلا أتباع، ما خلا كهنة الكنيسة وعائلاتهم، من الذين يستفيدون بكونهم رؤساء للطوائف الدينية المختلفة في أرض الخلافة!

يميل كثيرون من أصحاب النظرية الوطنية والنسيج الواحد إلى نشر دعوى كاذبة مفادها أن أهل الأديان غير الإسلام من الذين عاشوا في كنف دولة الخلافة، كانوا دائما أداة عون ودفاع عن الوطن مع المسلمين ضد أعدائه، وهذه الدعوى ليس لها ما يساندها في كل تاريخ المنطقة قديما وحديثا، باستثناء عيسى العوام طبعا (صلاح ذو الفقار) في فيلم الناصر، والذي كان في الحقيقة أحد فقهاء المسلمين وقائدا مسلما من قادة السلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي.

هذه الدعوى كانت تشمل اليهود والنصارى في مصر مثلا، فلما حكم مصر ذلك القومي (الناصري) الذي يدعو إلى العروبة تحت القيادة المصرية وطرد اليهود، تحولت الأقلام لتكتب عن تاريخ الدفاع النصراني/المسيحي عن الوطن مع المسلمين، وهكذا في كل بلد حكامه من أصحاب الدعوات القومية أو الوطنية، مع حرص كل الأقلام على تحريف معنى الوطن، والذي كان حتى وقت قريب تمتد حدوده من جزيرة سومطرة عند المحيط الهادي إلى موريتانيا عند المحيط الأطلسي، فهذه الأقلام تحاول بكل ما أوتيت من قوة شغل ونفاق وكذب أن تبني لكل ولاية داخل الوطن تاريخا قوميا أو وطنيا مستقلا، وتجعل القيمة النضالية فيه لأهل ذلك الإقليم على اختلاف دياناته، وهذا كذب يخالف التاريخ، وأنتظر أي متفيهق ليسألني عن الدليل التاريخي؛ حتى أعطيه قائمة المصادر والمراجع التاريخية، ثم أسأله عن مصدر أو مرجع واحد على ما يدعيه هؤلاء كذبا وبهتانا، ولو كان ذلك المرجع حتى كتاب ألف ليلة وليلة!

كان الغرب الصليبي الحاقد قد توصل إلى خلطة إرهابية جديدة ورهيبة تتوافق مع معتقد النصارى في دينهم، وفي نفس الوقت يمكن من خلالها خداع أصحاب الديانات الأخرى، بما في ذلك دين الإسلام!

توصل جهابذة الصليبية في مخططهم الشيطاني لغزو العالم، ودون مقاومة تذكر، بعد الصعوبات التي واجهتها القوات العسكرية الصليبية في محاولاتهم المتعاقبة لطحن إرادة الشعوب والأمم البشرية المختلفة، حتى وجدوا الحل في فكرة كنسية تفيد بأن مجتمع الكنيسة، أو كما يسمونه كنسيا: شعب الكنيسة، ينقسم إلى قسمين: رجال الدين (الكهنة والخدم)، والعلمانيين، فأما القسم الأول فهم المندرجة أسماؤهم ضمن وظائف خدمية في سجل العمل الهرمي داخل الكنيسة، والذين يقومون بأعمال مدفوعة الأجر في الطقس الديني أو ما شابه ذلك داخل الكنيسة، وأما القسم الثاني فهم العلمانيون الذين هم من شعب الكنيسة، ولكنهم لا يقومون بأعمال مدفوعة الأجر داخل الكنيسة، وإنما يتقاضون أجورهم نتيجة أعمالهم وخدماتهم من الدولة أو المجتمع الذي يقدمون خدماتهم له، وكلا القسمين يندرج ضمن مسمى (شعب الكنيسة).

سألت أحد طلاب العلم يوما: من هم أخطر الشعوب التي تخطط لاستعمار العالم، وما ديانتهم؟ فقال لي بلهجة قاطعة متأكدة: اليهود!

قلت له: ولم!

هل كان اليهود من قادوا الحملات الصليبية المتعاقبة على الشرق، ثم كانوا خير عون للتتار في هجماتهم البربرية على حضارة الإنسان؟ هل كان اليهود من أبادوا ملايين البشر في الأمريكتَين وأستراليا؟ هل كان اليهود من ضربوا بعض شعوب الأرض بالقنابل الذرية؟ أم هل كان اليهود أصحاب المعامل التي ينفق عليها أموال البشرية؛لإنتاج ترسانات الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وغيرها؟ هل كان اليهود من أقاموا قديما مستعمرات عالمية لخدمة قيصر وآلهة الأولمب، وما تلاها من آلهة من متألهي الطاغوت باسم نظريات التفوق العرقي، والإثنية السائدة والمستعبدة؟ أم هل كان اليهود هم من حولوا قرابة مائة مليون أفريقي إلى عبيد هلك نصفهم على الأقل غرقا أو في الطريق إلى مزارع الاستعباد الإنساني؟ هل كان اليهود أصحاب فكرة عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة؛ والغرض منها تقنين وحشية الغرب الصليبي، وتدمير كل إرادة حرة ترفض الاستعباد للغرب؟

لقد توصلت معامل الأفكار الصليبية إلى فكرة شيطانية استطاعوا من خلالها تعبيد اليهود أنفسهم، وغيرهم للرجل الأبيض، حتى استطاعوا شحن أمة بأسرها من أوروبا إلى ولاية فلسطين التابعة لدولة الخلافة بعد تدميرها؛ من أجل إقامة قاعدة عسكرية متقدمة في قلب العمق الإسلامي، بحيث يكون القاتل والمقتول في معارك هذه القاعدة من غير الرجل الأبيض، ثم إنهم حتى لم يمكنوهم من حكم أنفسهم، بل ضموا لبني إسرائيل وأسباطهم الاثني عشر سبطا ثالث عشر،ومكونا من الأشكيناز، وهم برابرة الرجل الأبيض؛ ليكون حاكما للقاعدة العسكرية الصليبية المتقدمة في أرض فلسطين، في صورة يهودية، بعقيدة صهيونية، صنعت خصيصا في معامل البروتستانتية النصرانية؛ لأغراض استعمارية صرفة.

سيكون لكل نقطة من نقاط هذا المقال تفصيل في مقال واحد إن شاء الله، ولكني أردت أن أشير في مقال هذا إلى حقيقة العدو الصليبي الذي استطاع أن يستميل بعض أهل المشرق والمغرب له، بأساليب غاية في المكر والخداع، فقد ظن اليهود أن الغضب الصليبي التاريخي على قتلة الرب! قد زال، كما ظن الصليبيون الشرقيون الجدد أن الكنائس الغربية تؤمن بما يؤمن به كنائس الشرق، وأنهم إنما يعملون لنجدتهم.

كذلك ظن الرويبضة من المنتمين للإسلام أن اتباع الغرب يمكن أن يضمن لهم مكانة بين الشرق الذي لم يعترف يوما بمكانة لأحد إلا أهل العلم والفكر، فلم يجدوا أمامهم إلا ادعاء العلم على النمط الصليبي.

لقد بشر الصليبيون الغربيون بقسمة الشعوب إلى قسمين: رجال دين، وهم علماء الدين في كل أمة، الداعين إلى اتباع دين هذه الأمة مهما كان، وعلمانيين وهم سائر الناس الذين يعملون في سلك الحضارة المدنية داخل هذه الأمم والشعوب، وحاولوا بسط هذا المفهوم وإشاعاته عالميا، ليظهر على أنه مفهوم تنويري جديد، يهدف إلى إقامة حضارات إنسانية على قيم مدنية، بعيد عن الدين، الذي هو سر بين الإنسان وربه، كعورة الإنسان التي لا يجوز لغيره وربه أن يطّلع عليها، فالأديان كلها في الفكر الصليبي الجديد عورة، ما عدا الدين الصليبي فهو عالمي لابد للناس من اعتناقه، على أنه لا يلزم من معتنقيه أن يعرف، أو أن يعترف، بأنه يعتنق ديانة صليبية، بل يكفيه أن يؤمن بأركان الديانة على أنها مجرد أفكار مدنية حضارية، فالدين لله والوطن للجميع، وما لقيصر لقيصر وما لله لله، وإذا ضربك أحدهم على خَدَّك الأيمن فأعطه خَدَّك الأيسر أو حتى مقعدتك ليضربك عليها، وإذا قاومت صرت إرهابيا، لاسيما إن كنت تقاوم الإله المتجسد في نفس الرجل الأبيض سيد البشر المخلص.

كيف ذلك، وكيف أسقطت الخلافة، وكيف صارت كل محاولة لإعادتها محاولة إرهابية إسلاميوية متأسلمة مستغلة للدين في سبيل الحصول على السلطة؟ وكيف أصبح الإسلام هو ما يراه الصليبيون؟ وكيف أصبح الصليبيون الشرقيون حملة الوحي إلى العلمانيين الشرقيين بالإسلام الجديد؟

كل هذه الأسئلة وغيرها سنجيب عنها تباعا في هذه السلسلة المباركة إن شاء الله: حلف الكنائس الصليبية لأخونة الكتائب الإسلامية.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

يوسف العاصي الطويل. الصليبيون الجدد (الحملة الثامنة). القاهرة. مكتبة مدبولي.
أحمد حسين الصاوي. المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة. الهيئة العامة لقصور الثقافة.
عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني. أجنحة المكر الثلاثة (التبشير،الاستشراق،الاستعمار). دمشق. دار القلم.
محمد خليفة حسن. آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية. الجيزة. عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
القس إكرام لمعي. الاختراق الصهيوني للمسيحية. دار الشروق.
سيد أحمد سعد. أساطير الليبرالية. نسخة أليكترونية. كتب عربية.
حمدي شفيق. الإسلام محرر العبيد (التاريخ الأسود للرق في الغرب).
أليكسي جورافسكي. الإسلام والمسيحية. الكويت. سلسلة عالم المعرفة. عدد 215
عبد الرحمن عميرة. الإسلام والمسلمون بين أحقاد التبشير وضلال الاستشراق. بيروت. دار الجيل.
محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي. القاهرة. مكتبة وهبة.
منير العكش. تلمود العم سام. القاهرة. رياض الريس للكتب والنشر.
عرض التعليقات
تحميل المزيد