القيم الليبرالية الفردية في مواجهة مطالب الجماعات الهوياتية

التعددية الثقافية المفهوم والإشكال

بالرغم من كون واقعة (Fact) التنوع الثقافي قديمة في الزمن، أي أن المجتمعات السياسية منذ القدم قد حَوَت داخل الدولة الواحدة قوميات وأجناس متعددة وألسنة متباينة (1)، إلا أن التعددية الثقافية كمفهوم لم يظهر إلا حديثًا، إذ لم يدخل إلى مجال التداول إلا مع بداية القرن العشرين (2)، ولم يتخذ صيغة إشكالية نظرية إلا في سبعينيات القرن الماضي. أما معنى التعددية الثقافية كنظرية ومفهوم فيمكن الأخذ بتعريف ويل كيملشكا الذي يتجه إلى اعتباره «وجهة النظر التي تذهب إلى أن الدول لا ينبغي عليها أن تُساند فقط المجموعة المألوفة من الحقوق الاجتماعية والسياسية والمدنية للمواطنة [..] ولكن ينبغي عليها كذلك تبني حقوق الجماعات الخاصة المختلفة أو السياسات التي تهدف إلى الاعتراف والتكيف مع الهويات والتطلعات المتميزة للجماعات العرقية الثقافية» (3).

يبدو من خلال هذا التعريف أن التعددية الثقافية تُحاول تمطيط نظرية الحقوق الليبرالية من طابعها الفردي إلى الاعتراف بوجود حقوق ذات بُعد جماعي، وهذا التصور الليبرالي الجديد مُتقدم للغاية بالمقارنة مع التصور الليبرالي التقليدي الذي يعتقد بأن من واجب الدولة حماية الحقوق الفردية (السياسية والاقتصادية…) المبنية على قاعدة المواطنة، ولا شيء غير ذلك. لأنه تصور يرى بأن منح جماعة مُعينة حقوقًا ثقافية يعني بشكل أو بآخر تقييد حرية الأفراد (المنتمين إلى هذه الجماعات) من ممارسة بعض حقوقهم الطبيعية في الحرية والمساواة تحت ذريعة تعارضها مع الحقوق الثقافية للجماعة، وهذا ما ترفضه الفلسفة الليبرالية بشدة.

أمام هذا التعارض الذي أنشأته الليبرالية الكلاسيكية بين الاعتراف بحقوق الأفراد من جهة وحقوق الجماعات من جهة، ظهرت التعدية الثقافية إشكالية ومصطلحًا كمحاولة للإجابة عن سؤال رئيسي هو «كيف يُمكن الجمع بين الشمولية في المساواة في الحُرية التي نادت بها الليبرالية الكلاسيكية والخصوصية التي تطالب بها الجماعات الثقافات»؟ (4)، إنها معضلة نظرية في حاجة إلى حل.

إن التعددية الثقافية تسعى إلى تقديم إجابة على سؤال آخر برز حديثا في الساحة الفكرية الليبرالية، وصيغته أنه ما دُمنا نؤمن بأن المجتمعات تتميز بتنوع وتعدد على مستوى الهويات الثقافية، الدينية، والأخلاقية، وبالخصوصية الثقافية، فما المبدأ السياسي الذي يضمن تعايش كل هذه المجتمعات في إطار دولة واحدة، مع الاعتراف بهذه الهويات المُتكَثِّرَة (المتنوعة)؟ (5)، فإذا كانت العلمانية مثلا، قد اعتمدت كمبدأ سياسي مَكَّنَ الأديان المختلفة من التعايش داخل دولة واحدة في وقت من الأوقات (6)، فإنه يمكن التساؤل بالمثل عن المبدأ السياسي الذي يجعل القوميات المختلفة تتعايش مع بعضها البعض داخل دولة واحدة مع الاعتراف لكل واحدة بخصوصيتها؟ فهل الأمر ممكن؟

ضد الدولة القومية أو في رفض تفوق الثقافات الوطنية

يُعتبر ويل كيملشكا أحد أبرز المدافعين عن التعددية الثقافية، والداعين إلى ضرورة الاعتراف بالحقوق الثقافية للقوميات، عوض الارتكان إلى مبدأ الحياد الثقافي الذي تدعي أنها تُمارسه اليوم، فالدولة الليبرالية الدستورية المعاصرة تدعي أنها تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان وجميع الأقليات القومية الموجودة في دولتها عبر معاملتهم جميعًا بكونهم أفرادًا متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن خلفيتهم الثقافية.

وهذا ما ينفيه بالبت والمطلق كيملشكا، إذ يرى بأن طبيعة الدولة التي تبنتها أغلب أنظمة العالم السياسية هي نموذج الدولة-الأمة Nation-state وهو نموذج في أبسط تعريفاته يقوم على أن الدولة هي بمثابة تعبير عن سيادة قومية أو أمة في حيز جغرافي معين، أي أن هنالك توافقًا بين الجغرافية السياسية وبين أماكن تواجد قومية معينة. وهذا النموذج يَفترض وجود قومية واحدة في ذلك البلد وأن لغة هذه القومية و هُويتها وثقافتها هي ما يجب أن تُعتبر ثقافة وهوية ذلك الوطن (7).

يرى كيملشكا أن طبيعة الدولة المُتبناة في العالم (ومعه العالم العربي) لا تسمح بالقول بأن الدولة من الممكن أن تكون مُحايدة ثقافيًا، بل على العكس هي مُنحازة لصالح ثقافة القومية الأغلبية فهي تتبنى سياسات ثقافية تُشجع ثقافة القومية الأغلبية باعتبارها الثقافة الوطنية، وهو ما يعني معه تهميش القوميات الفرعية.

لذا فإن كيملشكا يفترض أن ظهور المُطالبة بالتعددية الثقافية هو في الأصل ردُّ فعل على البناء القومي(8) الذي ذهبت في اتجاهه الدُول، ومنه يصل إلى نتيجة مفادها أن نظرية الحقوق الفردية في الفلسفة الليبرالية، أو نظرية المواطنة والمساواة أمام القانون لا تقدم، وحدها رغم أهميتها، أي حل.

لأن المشكل في مستوى أعلى فالمواطن حين يُحس بالدونية الثقافية بالمُقارنة مع مواطن آخر ينتمي إلى القومية المُسيطرة والذي تُدرس لغته في المدارس، فهذا الأمر لا علاقة له بالمساواة أمام القانون أو المساواة في الحقوق السياسية الذي تكفله النظرية الفردية للحقوق ونظرية المواطنة عموما؛ بل هو يُحس بالظلم نتيجة عدم الاعتراف الثقافي به، أي بحقوقه الثقافية، وهو ما أشار إليه كيملشكا أعلاه، ونعيد التأكيد عليه هُنا: ينبغي على الدولة أن تتبنى حقوق الجماعات الثقافية و«السياسات التي تهدف إلى الاعتراف والتكيف مع الهُويات والتطلعات المتميزة للجماعات العرقية الثقافية» (9).

أو بصيغة أخرى، ينبغي أن يُعاد بناء الدُولة وفق نموذج جديد هو الدولة متعددة القوميات، لأن نموذج الدولة-القومية (الدولة-الأمة) نموذج ليس طبيعيًا على الإطلاق حسب كيملشكا، فكل الدول تقريبا تتكون من قوميتين على الأقل، وبالتالي فالنظرية السياسية التي لم تُصغ على أسس طبيعية لا بد بأن تأتي بمشاكل كثيرة حين تُحاول فرضها على واقع طبيعي، والواقع الطبيعي هو واقع التنوع والتعدد.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد