ها قد مر أكثر من نصف قرن على استقلال الجزائر من المستعمر الفرنسي، استقلال نالت فيه الجزائر سيادتها السياسية وبلغت النصف في الاقتصادية، لكن للأسف لم تلحق نسمات السيادة إلى الثقافية بعد، أستحضر مقولة ديغول عندما قال: «إنني أفكر في إفراغ الثورة من محتواها، بحيث تبقى الجزائر في حالة التبعية لفرنسا، حتى بعد 50 سنة من الاستقلال».
فرنسا يا سادة خرجت من الباب العسكري، وعادت من النافذة الثقافية، وهذا ما يسمى بالاستحلال أو الاحتلال الذاتي، التي تمارسه فرنسا على مستعمرتها القديمة بالعمل على جعل المجتمع الجزائري متشبعًا بالثقافة الفرنسية، مفرغًا من أيديولوجية ثورة التحرير الوطني، ومناهضًا للمبادئ النوفمبرية، فرنسا عملت على هذا الجانب، وركزت على هذه النقطة التي تمكنها من ممارسة الاستعمار عن طريق التبعية العمياء.
فبعد صمود وعزيمة جبهة التحرير الوطني، التي كانت تنادي بتحرير الأرض والإنسان، انصاغ ديغول كرهًا لاستفتاء تقرير المصير، والذي صوت له الشعب الشعب الجزائري بنعم للاستقلال بنسبة فاقت 97%، توج بعدها باستقلال الجزائر أرضًا وسيادة سياسية.
جميعنا يتذكر ما فعلته فرنسا بأراضي غرب البلاد، التي كانت تنتج أجود أنواع القمح، ولا ننسى أراضي المدية التي كانت تنتج الأرز، خربت فرنسا تلك الأراضي، وحولتها لزراعة العنب؛ لدعم إنتاجها للخمر، وزيادة صادراتها من ذلك، وعلى حساب الاستيلاء على أراض شاسعة، كانت في يوم من الأيام تنتج فائضًا من القمح، كانت الجزائر تتصدق به لفرنسا وأوروبا.
بدون أن ننسى ما فعلته فرنسا للإنسان الجزائري من محاولات لإدماجه للمجتمع الفرنسي، وطمس هويته الوطنية الجزائرية، إذ زرعت المئات بل الآلاف من الجمعيات التبشيرية مغلفة بطابع الخيري والإنساني، كانت تقتصر مهمتها على زرع ورم الثقافة الفرنسية في أوصال المجتمع الجزائري، الذي بقي متمسكًا بمقوماته الوطنية.
ولا ننسى الدور الكبير الذي لعبته جمعية العلماء المسلمين بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس العالم المجدد، كان الشيخ – رحمة الله عليه- كالنسغ الذي ينشر الروح الوطنية في شرايين الأمة الجزائرية، ومكسرًا للقاعدة التي ابتدعتها فرنسا، بأن الجزائر أمة في طور التكوين، وأن الجزائر فرنسية، ليرد عليها الشيخ عبد الحميد بن باديس بمقولته الشهيرة «شعب الجزائر مسلم، وإلى العروبة ينتسب، فمن قال حاد عن أصله، أو قال مات، فقد كذب، أو رام إدماجًا له رام المحال من الطلب» تأتي هذه المقولة لتثبت لفرنسا آنذاك أن للأمة الجزائرية مقومات وبُعدًا حضاريًّا ثقافيًّا وإسلاميًّا.
رحل الشيخ ابن باديس – رحمة الله عليه- إلى جوار ربه سنة 1940 ليكمل المسيرة من بعده الشيخ بشير الإبراهيمي، مجدد الحركة العلمية كرئيس لجمعية علماء المسلمين، الذي كان رمزًا من الرموز الوطنية، هو ومصالي الحاج أبو الوطنية صاحب مقولة أرض الجزائر ليست للبيع يا فرنسا.
كل تلك المجهودات والاجتهادات لصد المد الفرنسي الطامح لفرنسة الجزائر شعبًا وثقافة، توجت بثورة نوفمبر (تشرين الثاني) المجيدة والمباركة، كان بيان أول نوفمبر الذي ينص على بناء دولة جزائرية شعبية ديمقراطية، في إطار المبادئ الإسلامية، دستورًا ومرجعًا وقاعدة انطلقت منها الثورة المجيدة لتحرير الجزائر، شعبًا وأرضًا، من مخالب الذئب الفرنسي، كانت ثورة التحرير المجيدة تعمل على تحرير الإنسان والأرض، كما ذكرنا أعلاه، للأسف نجحت في تحرير الأرض، ولكن بقي الإنسان مستعمرًا ثقافيًّا مفرغًا من كل إيديولوجيات جبهة التحرير الوطني.
الحكاية بدأت قبل الاستقلال، عندما اشتدت الحرب بين المستعمر الفرنسي، وجيش جبهة التحرير، تفطنت فرنسا إلى أن ساعة مغادرتها قد حانت، ومستدلية بذلك بعبارة أنه لا يوجد احتلال دائم، ولا استقلال دائم، وفي خضم تلك المعركة قامت بالعمل على التكوين الإيديولوجي تمهيدًا للاستعمار الثقافي، إذ أرسلت وفودًا من المجتمع الجزائري لفرنسا؛ من أجل الدراسة والاحتكاك بالثقافة الفرنسية، لتدمجهم بعد ذلك في الإدارات والمؤسسات التعليمية.
نجحت فرنسا في ذلك، وأنتجت إطارات مؤدلجة ومفرنسين أكثر من الفرنسيين نفسهم، لتأتي سنة 1962 لتعلن نهاية الاستعمار العسكري وبداية الاستعمار الثقافي. لا يجب أن ننكر أن الصراع على السلطة بين قيادة جيش الحدود، بقيادة بن بلة وبومدين والحكومة المؤقتة، التي يمثلها يوسف بن خدة، ساعد في تهيئة الأجواء لإرساء فرنسا لقواعد الاستعمار الثقافي في المجتمع الجزائري.
فبعد أن انسحبت الحكومة المؤقتة، نصب بن بلة أول رئيس للجزائر المستقلة سياسيًّا، باشرت الجامعات والمؤسسات التربوية عملها بالبرامج والمناهج نفسها التي سطرتها فرنسا، وبقيت الإدارات مفرنسة، وتحت حكم الإطارات الجزائرية التي كونتها في فرنسا المشبعة بالثقافة التغريبية والمفرغة من كل إيديولوجيات جبهة التحرير المباركة.
واستمرت الأمور على ذلك النحو، إذ صارت اللغة الفرنسية هي السائدة، ولغة التعاملات بين أوساط المجتمع الجزائري، نحن نعلم أن الاستعمار العسكري أصبح وسيلة تقليدية، مقارنة بالاستعمار الثقافي الذي أثبت نجاعته، والذي يرتكز على اللغة في الأساس، كون اللغة هي الوعاء الحضاري، والشريان للثقافة المتصلة بها.
للأسف لم تعمل حكومة بن بلة على تعميم اللغة العربية في الإدارات، وتجذيرها في المؤسسات التعليمية، كيف تعلم الأجيال اللغة العربية في المؤسسات، ثم يجد نفسه مجبرًا على التعامل بالفرنسية في الإدارات المفرنسة، وهذا ما يولد الاختلال في أواصر العلاقة بين المجتمع وثقافته الوطنية، أو التجويف لهذه الأخيرة، لجعلها هشة وبدون حصانة إيديولوجيًّا وهذا ما قامت به فرنسا مستغلة صراع الشرعية الثورية بين الأخوة الأعداء الحال، وقد أدى ذلك الصراع إلى انقلاب عسكري قاده بومدين على بن بلة.
وهنا الأمور أخذت منحنى آخر، أسس بومدين مجلس الثورة لتسيير شؤون البلاد، وكان أعضاء ذلك المجلس هم أنفسهم وزراء الحكومة آنذاك، الطامة الكبرى أنه قد عزل مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني عن سلطة القرار، وكان أحمد مدغري وزير الداخلية في فترة حكم بومدين هو عراب ذلك المخطط، إذ عزل كل مناضلي الحزب المتشبعين بإيديولوجية جبهة التحرير الوطني، ووظف الإطارات المفرنسة التي تحدثنا عنهم؛ مما جعل حزب جبهة التحرير الوطني ينحصر في زاوية ضيقة عاجزًا عن الدور المنوط به، بتكوين أجيال متشبعة بإيديولوجية ثورة التحرير وبقية الثقافة الفرنسية ولغتها في تمدد وتجذر في المجتمع، ليتطور ذلك التمدد إلى انحلال في الأخلاق.
والبداية كانت من تأسيس رياض الفتح في فترة حكم الشاذلي؛ إذ كان في بدايته وكرًا للمخدرات والانحراف للشباب، ومعرضًا للأفلام الغربية المشجعة على الانحلال، والتي لا تمت بصلة للثقافة الجزائرية، كل هذه العوامل وأكثر مهدت لتمركز الجزائريين المفرنسين من الأقلية التي لعبت على وترها فرنسا، واستطاعت أن تجعل منها مقاطعة فرنسية بامتياز، وتدمجها في موقع سلطة القرار، وأقصد جهاز المخابرات والمؤسسة العسكرية، التي كان معظم قياداتها يمثلون التيار الفركفوني، أي متشبعين بالثقافة الفرنسية.
هي نفسها القيادات التي جمدت قانون التعريب الذي سنه الشاذلي سنة 1991، والذي لاقى رفضًا من الأقلية التي خرجت رافضة للتعميم العربية ومطالبة بالإبقاء على الفرنسية لتطيح القيادات العسكرية بالشاذلي على رأس الحكم بعد عام من تفعيله قانون التعريب، والذي جمدته في فترة حكم علي كافي، ليأتي بعده زروال ويتطبقه من جديد، كانت الأمور تسير نحو دمج الثقافة الوطنية بمقوماتها الحضارية.
إلى أن جاء بوتفليقة ليجمد قانون التعريب من جديد، ويلقي به في سراديب النسيان، معلنًا بذلك بداية حملة الفرنسة والإطاح باللغة العربية التي تعد من هوية الشعب الجزائري، ومن بين أهم مقوماته، تلك السياسة التي مارسها بوتفليقة تجسدت في انحلال أخلاقي كبير، وتدهور للغة العربية في كل مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية، إذ أصبحت اللغة العربية في فترته مرتبطة بالتخلف والتقهقر، عكس اللغة الفرنسية التي كانت دائمًا مرتبطة بالتحضر والازدهار.
يجب أن نعلم أن الجزائر تعيش في حالة انسلاخ عن المقومات التي توارثها هذا الشعب، خصوصًا من حيث اللغة العربية، والدين الإسلامي، فرنسا تعلم جيدًا أنها لن تطمس الهوية الجزائرية إلا إذا قضت على مقوماتها الرئيسية المتمثلة في الإسلام والعروبة؛ فراهنت بذلك على تيارها الإدماجي الفركفوني الاستئصالي، والمتمثل في الشخصيات المفرنسة من الأقلية التي ذكرتها سابقًا.
ينتهج هذا التيار سياسة تجفيف المنابع أو الاستئصال؛ إذ خلق للدين الإسلامي اللائكية، وجعل للغة العربية ضرة لعرقلتها وترك الساحة للغة الفرنسية، بدون أن ننسى التحريف للمناهج التربوية والتعليمية، والتي أصبحت تدعو للانحلال الثقافي بدلاً من الالتزام بالقيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية، هذا هو الاستعمار الثقافي الذي تمارسه فرنسا ضدنا، والذي خلق التبعية لها في كل المجالات، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، ولن تقوم لنا قائمة إلا إذا استقللنا ثقافيًّا من فرنسا، ولا يكون ذلك إلا بالتمسك بالهوية الوطنية، وصقل الأجيال بمقومات الأمة، فهل سنشهد المرحلة المقبلة استقلالاً ثقافيًّا يتوج بدولة باديسية، خصوصًا بعد عودة التيار الوطني للواجهة من جديد، بعد سنين من سطوة التيار الفركفوني المتبني لسياسة الغزو الفكري والقهر الحضاري
تحيا الجزائر، المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست