أحيانًا، أو كما أرى غالبًا، إن للبيئة تأثير على الفكر الناشئ، والمنظومة الاجتماعية لها تأثير على نشأة ما أسميه “العاطفة الفكرية” لدينا. وفكر ومشاعر وتفاعل العقل الجمعي قد يحدد ثوابت العوام منا لتصل بعض الأفكار والثوابت إلى القدسية التي من الجريمة مجرد النقاش فيها وليس نسفها، حتى التيارات التي قد ننتمي لها أو نؤيدها، الغالبية العظمى منا تبِعها لميول عاطفة دينية أو فكرية أو تشابه مذهبي، وليس عن نقد بناء.

أحيانا عندما تقول لشخص اقرأ لبرنارد راسل يقول لك قاتلك الله هذا أبو الملاحدة وهو في داخله يتخوف من أن تهز أفكاره، يحب دائما أن يخدر نفسه بقراءة أفكار تؤيد لما يذهب إليه وهذا سلوك موجود عند الكثيرين، لا يحب أن يقرأ ما يزعجه نتيجة لكسل فكري.

فيما مضى، كنا نتحدث عن الأصولية، كان صديقي راديكاليًّا، الفكر الذي يحمله كان متجذرًا فيه لدرجة أني رأيت أنه لا أمل من أن يلين فكره قليلا.

قد لا يهمني كثيرًا، غير أني وجدته مؤخرًا يثير أسئلة لم أتوقع أن يثيرها شخص مثله. عندما حدثته ذكر أنه قد سافر مؤخرًا إلى إحدى الدول الغربية (مغترب)، وشارك هناك في بعض الندوات والحوارات الثقافية، وحدث عنده نوع من الصدمة، عندما اهتز فكره الذي قدسه، وتعرضت الثوابت لديه لتساؤلات حادة لم يجد إجابة عنها بسهولة.

ولكي لا يكون مصطلح الصدمة الحضارية ضبابيًّا، هذا موجز بسيط عنه:

ظهر مصطلح الصدمة الحضارية Culture Shock ببحث نشره Kalvero Oberg سنة 1954 ثم يذكر أطوارها الأربعة التي يمر بها الإنسان
المغترب وهي:

1- مرحلة شهر العسل (Honeymoon Phase)

2- مرحلة التفاوض (Negotiation Phase)

3- مرحلة التوافق (Adjustment Phase)

4- مرحلة التكّيف (Adaption Phase)

وينقسم في مراحل التوافق الناس ثلاثى أقسام تبعا لاختلاف ثقافاتهم وعاداتهم إيمانهم وحتى العامل النفسي إلى: رافض، ومندمج، ونوع ثالث واعٍ جدا وهو الذي نطمح له، وهم من يستفيدون من الإيجابيات ويدمجونها مع إيجابياتهم الفكرية الأصلية ويدعون كل ماهو سلبي. والبحث عميق في هذا المجال لمن أراد أن يرجع إليه متوفر.

لكن ما يهمني هو أن الاختلافات الفكرية والحضارية أحيانًا قد تشكل تحديًا كبيرًا خاصة عندما ينشأ الفرد في بيئة راكدة فكريا، في بيئة تعارض مناقشة الثوابت، لتصطدم بسلوك وعقليات وفكر يثير فيك تساؤلات حادة عن الثوابت لديك، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين لديهم مستوى ثقافي متدنٍ، خاصة بالنسبة للاشخاص الذين تلقوا تلك الثوابت بناء على مشاعرهم وبيئتهم وعما ورثوه من آبائهم وأجدادهم، هذا كله قد يكون خطرًا على صاحبه.

لا يخشى هذه الصدمة الحضارية أولئك الذين تلقوا تلك الثوابت عن دراية ويقين وتساؤلات مثيرة، عن قراءة فكرية مستفيضة، أولئك الذين لا يخشون النقاش بحثا عن الحقيقة وإنما يقر به أينما وجد، غالبا ما تؤدي هذه الصدمة إلى طريقين أحدهما سلبي والآخر إيجابي.

السلبي أنه أحيانا ما يكون هناك رفض لكل شيء كنتيجة لقصور فكري وتعالٍ شخصي فينتج لنا الراديكاليون الأكثر عنفا ورفضا للإصلاح والتحديث في المجتمعات، أو أنه يصدم حضاريًّا فتؤدي الصدمة إلى ذوبانه في تلك الحضارة وتلقيهِ حزمة قيم ايجابية وسلبية فينحرف تمامًا عن المنهج الذي انتهجه سابقًا ويرتد عن فكره، ليصبح أكثر عداءً لتلك الأفكار التي كونته يومًا ما، بكلتا الحالتين هي حالة سلبية.

الإيجابي أنه قد يستوعب تلك الصدمة في مراجعات وإصلاحات ذاتيه ونهضة فكرية ليجد توليفة مناسبة بين فكره والقيم الأخرى التي تتناسب مع حزمة القيم لديه لينتج فكرًا أكثر متانة وأكثر فاعلية لتحريك المجتمعات وهذا ما وجدناه في أمثلة كثيرة.

كما حدث في الحروب الصليبية وقبلها في الأندلس عندما التقت أوروبا التي كانت متخلفة على كل المستويات بالحضارة الإسلامية التي كانت تحكم العالم، فحدثت الصدمة الحضارية لدى أوروبا والتي ساهمت في النهضة الأوروبية الحديثة.

بالنهاية قد تكون الصدمة الحضارية سلاحًا ذا حدين، فقد تكون إيجابية وقد تكون سلبية اعتمادًا على عوامل كثيرة وأيضًا اعتمادًا على مدى قابلية الفرد للاستيعاب الفكري.

تذكر دائمًا، هناك تجديد، وأينما وجد التجديد فإن أنصار المدرسة التقليدية سيعملون على مجابهته والهجوم عليه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد