قرية واحدة كثيفة بالسكان نجت من وباء عظيم اجتاح العالم بأسره، حتى تسبب هذا الوباء في وفاة الملايين من البشر، وإصابة ملايين آخرين بأمراض وأعراض أخرى، حتى صارت هذه القرية حديث الساعة؛ لأنها أصبحت علمًا فريدًا ونموذجًا عجيبًا من نوعه، يدعو إلى البحث والتأمل، مما شجع العالم ودفعه على تسميتها بـ«القرية المقدسة» وبـ«قرية نوح الجديدة».
والأكثر عجبًا أن هذه القرية لم تكن معزولة عن العالم أو محصورة بين الأودية والجبال، ولم تكن تلتمس أي وسيلة من وسائل الوقاية والحماية المشهورة في باقي البلدان التي حولها!
حتى حار العلماء في دراستها، ثم اكتشفوا أنهم يتميزون بتناول أطعمة خاصة تختلف عن بقية بقاع العالم في عاداتهم الغذائية، واكتشفوا أن هذه الأطعمة كانت كسفينة نوح التي حفظتهم ووقتهم من طوفان شر الأوبئة، ومن شر أمراض كثيرة لا حصر لها من أمراض هذا العصر القبيح، الذي انتشرت فيه الأمراض الغريبة بشكل مأساوي.
نعم عصر قبيح؛ لأنه يدَّعي تطور الطب ورقي الحضارة، وهو في النهاية أسوأ عصر صحي واجهته البشرية على مر عصورها.
إن هذه القصة ليست مجرد قصة خيالية غير محتملة الحدوث، بل إنها تحدث بشكل طبيعي دائم في التاريخ بصورة أو بأخرى، ولكن وللأسف لا يتم تسليط الضوء على دراستها بعمق كما ينبغي أن يكون.
وأبسط مثال على ذلك «قرية الهونزا» المُعمرة التي تقع في شمال باكستان. فقد اجتاحت الأمراض العصرية كل أرجاء الكوكب سواها، حتى صار كوكبنا الأرضي قابلًا لإعادة تسميته الفلكية ليتحول مسماه إلى كوكب السرطان، أو كوكب التوحد، أو كوكب الأمراض الوبائة، أو كوكب التشوهات الجينية.
لكن هذه القرية من دون سائر أنحاء الكوكب كله لم ينتشر فيها تلك الأمراض العصرية، لأنها بالفعل تتميز بأطعمتها الخاصة وبفطرتها النقية، وتتمتع ببيئة ثقافية طبيعية تمنعها وتحفظها وتصونها من تقليد الآخرين في عاداتهم الأخلاقية والسلوكية الصحية السخيفة وكذلك من أنماطهم الغذائية القبيحة.
فهل هذا النموذج الفريد من نوعه قابلًا للتكرار؟ وما علاقة ذلك بعنوان المقال؟
نعم – النموذج قابل للتكرار وقابل للتطوير والمحاكاة – فإلى أي مدى يمكن تطبيقه؟ وكيف نفهم إمكانية تكراره؟
لنفهم تلك الكيفية نستعرض أولًا نموذج قصة وباء الجدري الذي انتشر في القرن الثامن عشر، حيث لاحظ الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر نجاة حلابة البقر، الآنسة سارة، من هذا الوباء اللعين، وذلك لأن مناعتها الخاصة اكتسبت قدرات مناعية من جرثومات حمى جدري البقر (Cowpox) أثناء قيامها بحلب البقر، رغم أن الفارق شاسع جدًّا بين المرضين.
والسؤال المهم: هل كان العالم سيستطيع بدون هذا الاكتشاف العظيم أن ينجو من هذا المرض اللعين الفتاك؟
بالطبع لا، ولهذا فعلينا معرفة كيفية تكرار هذا النموذج لاكتشاف العلاج المناسب للأوبئة والأمراض كذلك.
لقد فاقت قدرات الملاحظة لهذا العالم الجليل أن يُلاحظ ما لم تُلاحظه الوسائل المعلوماتية الهائلة في عصرنا الحديث المليء بالزخم المعلوماتي عبر شبكات الإنترنت، والمليء بتكنولوجيا الذكاء الصناعي وتكنولوجيا (5G) و… وغير ذلك من الوسائل الحديثة، ولهذا فالمطلوب أن نجعل العلم والعلماء والباحثين قادرين على رؤية أمثال سارة، وأمثال قرية الهونزا المُعمرة بطريقة معلوماتية حديثة ومتطورة عن كل التكنولوجيات والوسائل السابقة، بحيث تختلف عن طريقة علم الأوبئة Epidemiology، وعلم الجغرافيا الصحية Health Geographics، وخرائط انتشار المرض Disease diffusion mapping، الذين يستعان بهم في دراسة الأمراض والأزمات الوبائية.
نعم – نعم هذا ما نريده ونصبو إليه من بحثنا هذا، ولهذا ندعو إلى حُسن توظيف وسائلنا التكنولوجية المعلوماتية الهائلة بطرق أكثر دقة وأكثر معلوماتية لدراسة جغرافية الأمراض الوبائية العالمية، بل الأمراض الأخرى غير الوبائية كذلك، حتى يتسنى لنا معرفة أسبابها الحقيقية، ومعرفة وسائلها العلاجية، بدلًا من أن تظهر لنا خريطة عالمية بإحصائيات رقمية مُحبطة ومُفزعة كما نراها الآن في أحداث كورونا – حتى أصبحت لا تفيدنا بشيء سوى المزيد من الخوف والإحباط والفزع.
نريد أن تظهر أمامنا خريطة صحية غذائية عالمية مفصلة لكل منطقة وكل قرية في العالم، وليست مجرد خريطة لدول محاطة بحدود لا قيمة لها؛ لأنها لا تعبر في النهاية عن أي معنى غذائي ولا صحي، ولا تساعد على استكشاف أسباب نجاة دولة منها، أو أسباب نجاة قرية فيها دون أي دولة أو قرية غيرها.
فلنتخيل مثلًا لو أن أمامنا خريطة دقيقة كالتي نطالب بها، وكانت جميعها مثلًا كثيفة بمرض السرطان ما عدا قريتين ناجيتين، إحداهما في قرية مغربية، والأخرى في قرية هونزا الباكستانية، وكانت تلك الخريطة تحتوي على المعلومات الصحية والغذائية والسلوكية لهاتين القريتين، عندئذ يمكننا استكشاف العلاج، وتقليد وسائلهم الغذائية بحيث لا نصاب بهذا المرض اللعين الفتاك، ولنستطيع كذلك أن ننجو من بقية أمراض العصر الأخرى المحاطة بنا بشكل فج من كل حدب وصوب.
وإليكم مثال آخر غير مثال الجدري وغير مثال قبيلة الهونزا المُعمرة، حتى تتضح معالم الفكرة بشكل أكثر دقة، وهو مثال ظاهرة انتشار مرض البلاجرا في القرن التاسع عشر، والذي انتشر في الكثير من بلاد العالم وعلى رأسهم جنوب الولايات المتحدة وإيطاليا كذلك!
لقد عدوه وقتها «وباء»! وظنوه جراثيم مُعدية تنتقل عبر الهواء!
وذلك لأنه تسبب في وفاة 100 ألف من الشعب الأمريكي، وكان من العجيب أن هذا المرض يبدأ في مواسم الربيع ولهذا سموه بـ«مرض الربيع»
لكن مع الدراسات المُفصلة لاحقًا اكتشفوا أنه ليس مرضًا وبائيًّا، وإنما هو مجرد مرض غذائي!
لقد ظهر في هذا الزمان طبيب بارع وهو جوزيف غلدبيرجر، ودرس ظاهرة انتشار المرض بعمق في البيئات المختلفة جغرافيًّا واقتصاديًّا وغذائيًّا… إلخ، بطرق معلوماتية مفصلة حتى إنه درس طبيعة ملاجئ الأيتام والسجون والمزارعين الفقراء وغير ذلك، ودرس أنظمتهم الغذائية، حتى أصبحت منهجيته سببًا وعلمًا في معرفة طبيعة هذا المرض واكتشاف أنه من أمراض نقص التغذية، الذي نتج من ظاهرة الاكتفاء بتناول أكل الذرة بكثرة.
لكن كيف تتسبب الذرة في تلك الظاهرة الوبائية، في حين أن المعلوم أن الذرة غنية بأغلب العناصر الغذائية؟
وكيف ذلك والأجداد الذين تناولوها لم تحدث معهم تلك الظاهرة الوبائية؟
ولاختصار الإجابة علميًّا نقول إن الذرة غنية فعلًا بأغلب العناصر الغذائية، ولكنها فقيرة تمامًا من مادة النياسين (فيتامين ب3) والتربتوفان، أو بالأحرى فإن طريقة تناول الذرة بدون معالجتها بالجير على طريقة أسلافهم السابقين أو بدون نزع نواتها فإنها ستؤدي إلى انعدام النياسين والتربتوفان بالجسم، وبالتالي تظهر عليهم أعراض البلاجرا؛ لأن هذين العنصرين مهمان جدًّا لإتمام دورة الحياة الطبيعية في جسم الإنسان.
فهل من الممكن أن يُثبت التاريخ في المستقبل أن فيروس كورونا لم يكن مميتًا ولكنه أصبح خطيرًا في زماننا بسبب نقص بعض العناصر الغذائية المهمة في الجسم كاليود والزنك، وبالتالي لم يستطع الجسم مقاومته بسهولة؟
لا أستبعد ذلك؛ لأن عصرنا فقير بالأنظمة الغذائية الصحية.
هل من الممكن أن يُثبت التاريخ في المستقبل أن أجسام البشر تستطيع أن تقاوم هذا الفيروس بسهولة، ولكنه قتل فقط من يتناولون دواء بعينه أو مادة بعينها، مثل المواد الحافظة؛ فزادت من حدة المرض، فأصبح كارثة مميتة فوق رقابهم؟
هل من الممكن أن يُثبت التاريخ في المستقبل أن من نجوا من هذا المرض أو غيره كانوا مرضى بأمراض أخرى كالسرطان، ولم يصابوا بالمرض لأن الأدوية التي يتناولونها لعلاج أمراضهم كانت فعالة لعلاج هذا الفيروس الوبائي؟
هل من الممكن أن يُثبت التاريخ في المستقبل أن من نجوا من أمراض معينة كانوا يتناولون أطعمة ضارة ومسرطنة، وكانت تلك المواد الضارة في أطعمتهم سببًا فعالًا في علاجهم ونجاتهم من الفيروس الوبائي؟
هل من الممكن أن يُثبت التاريخ في المستقبل أن من نجوا من أمراض معينة كانوا من فئة عمرية محددة امتازوا بأنهم تم تطعيمهم بأحد التطعيمات المهمة في زمانهم؟ فصار هذا التطعيم سببًا في نجاتهم من الوباء؟
لا أستبعد كل ذلك أيضًا، فمن يقرأ في التاريخ سيلاحظ فيه العجب، وعلينا أن نستكشف هذا العجب ونساعد على حل ألغازه.
إن الأمثلة لا تتوقف على قصة الجدري والبلاجرا، فقد تكررت أمثالها عبر التاريخ، ففي زمن انتشار الكوليرا حدثت النجاة من المرض بفضل معرفة المعلومات الجغرافية الدقيقة، والتي بينت أن ظاهرة انتشار الكوليرا كانت تتزايد عبر آبار مائية معينة.
ولهذا فإن هذه النماذج الاستكشافية التي ذكرناها وجب تكرارها بالاستعانة بالتقنيات الحديثة وبالاستعانة بتطوير خرائط GPS وخرائط Google لتتحول إلى خرائط معلوماتية دقيقة تبين لنا طبائع البلاد وعادات القرى والشعوب الغذائية، حتى يتسنى لنا اكتشاف المفاتيح العلاجية للأمراض الوبائية، وغيرها من الأمراض الأخرى، مثل معرفة مُسببات السرطان، ومعرفة طرق علاجه، بدلًا من التخمينات العلمية الهائلة التي تؤخر معرفة التشخيص الحقيقي، والتي تُعرقل استكشاف الوسائل العلاجية لها.
ولهذا أطالب جميع الدول بالتعاون من أجل إنشاء موقع جغرافي دقيق للصحة والأمراض، وبعدها ستفاجئون بدراسات هائلة تُحدد الأسباب الجغرافية والغذائية والبيئية لانتشار الأمراض، والأسباب الغذائية المناسبة لعلاجها.
وإن لم تتعاونوا فسوف تقضي عليكم الأوبئة الحالية أو المستقبلية، وسوف تقضي عليكم الأمراض العصرية، أو على الأقل ستعانون بشدة منها؛ لأنه ليس من السهل أبدًا تكرار نموذج إدوارد، وجوزيف، وابن سينا، والرازي، وابن خلدون، وغيرهم من العلماء والعظماء الذين تفخر بهم كل الأمم، وليس من السهل أيضًا تكرار نموذج استكشاف سارة (حلابة البقر)، لأن طبيعة الحياة قد تغيرت وتعكرت.
إن هذه الفكرة لو جرى تطبيقها بدقة كما ينبغي، فإنها ستغير حتمًا من وجه التاريخ، وستغير من خريطة انتشار رقعة الأمراض في العالم بأسره، وستقلل من معدلات الوفيات الناتجة من الأمراض بل الناتجة كذلك من الحوادث والأمراض النفسية، والناتجة كذلك من استخدام الأدوية، ليعود العالم تدريجيًّا إلى طبيعته الصحية كما كان.
ولن يُعرقل هذه الفكرة إلا أصحاب الرأسمالية الخبيثة، لأن هذه الفكرة ستُفسد الكثير من مُخططاتهم، وستُفسد سوق منتجاتهم التي أضرت بهذا الكوكب العظيم بشرِّ الأمراض، والتي أضرت بسكان هذا الكوكب وبشعوبه المسكينة، ولهذا يجب التصدي لهذه العوائق الرأسمالية، ويجب إنشاء هذا المشروع العظيم بتحدٍ وتطويره بقوة.
وفي النهاية أتساءل: هل يمكن لمؤسسي جوجل Google أن يتعاونوا لإتمام هذا المشروع العظيم؟ أم أنهم سيحاربونه؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست