خلاف حول الاستخلاف
مع كل حادث إرهابي في أية دولة عربية، تشير أصابع الاتهام إلى السعودية وقطر كداعم أساسي لتنظيم داعش، يروج هذه الاتهامات كثير من العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين، بل وحتى المصريين والمغاربة، وإن كان بصوت أخف. مما قوى ذلك، ادعاء الأجهزة الأمنية السعودية أن لا سوابق إرهابية للانتحاري السعودي الذي فجر نفسه في الكويت في الجمعة الماضية 28/6/2015، ليتبين لاحقًا أنه سعودي متشدد ويكفر غيره متأثرًا بأخواله المعتقلين بسبب تشددهم، وزميل لانتحاري جامع القديح وشقيقه إرهابي رجع إلى بلاده قبل أشهر من العملية وحاول الذهاب إلى العراق.
ترتكز هذه الاتهامات في جانب منها على أسس تتعلق بوحدة المنهج السلفي في السعودية وقطر مع داعش، وأيضًا بسبب التراشق الطائفي الذي ينتج عن حرب المنابر والمنابر المضادة، والتكفير والتكفير المضاد. وإذا كنا سلمنا جدلًا بوجود هذا الدعم، الذي قد يكون غير مباشر.
فما هي صور هذا الدعم؟ هل هي جهات حكومية؟ شعبية؟ دينية؟ هل يكون بشكل دعم مادي (بشكل أموال وتبرعات وبضائع) أم معنوي؟ (بشكل فتاوى وفقه وعقائد وكتب)؟ أم إعلامي؟ مثل التحريض اليومي الذي تقدمه قنوات صفا، وصال وغيرها؟ في الجهة الأخرى، أليست السعودية اليوم ضحية لداعش أصلًا؟ وتضع داعش ضمن التنظيمات المتطرفة؟ ألم تستهدف السعودية كشعب أولًا من خلال تفجيري القديح والدمام، وحكومة من خلال استهداف رجال المباحث والشرطة السعودية؟ آلا تشارك السعودية ومثلها قطر، في التحالف الدولي ضد داعش بطائراتها المقاتلة؟
ألم تكشف تسريبات ويكيليكس الأخيرة عن وزارة الخارجية السعودية أن لا صلة مباشرة للحكومة السعودية بالإرهاب الداعشي؟ أم أن السعودية، ومثلها قطر، دعمت داعش والقاعدة في بداياتها كرهًا بالنظام الجديد في العراق واستخدمتها ضد النظام السوري، وهي الآن تقف بالضد منها بسبب تأثيراتها العكسية على أمنها الداخلي؟
إن الإجابة عن كل تلك الأسئلة ستعطينا صورة واضحة عن العلاقة المتشابكة ومساحات التقارب والاختلاف بين داعش وأمها القاعدة، باعتبارهما أقوى الحركات السلفية الجهادية الصاعدة وبين الإمارات السلفية في الخليج العربي.
وفي الحقيقة، فرغم أن تنظيم داعش يعتنق السلفية ويدرس مناهجها، إلا أن سلفيته من نمط خاص، لا تعترف بمبدأ إطاعة الحاكم السني الظالم، إلا إذا طبق الشريعة.
السعودية نفسها التي يهدد داعش شرعيتها كزعيمة للسنة في العالم العربي والإسلامي، تواجه تهديدًا وجوديًّا من داعش، فرغم أن الشريعة الإسلامية بالفهم السلفي مطبقة فيها، إلا أن السلفية الجهادية تعتبر أنها سلفية مشوهة تسميها (سلفية جهمية – نسبة للجهم بن صفوان أو جامية نسبة لمحمد أمان الجامي) وتأخذ على السعودية سماحها للشيعة بالعيش الرغيد كمواطنين، رغم أنهم مشركون بالفهم السلفي في مدارس السعودية وداعش معًا! وتعيب دخولها في هيئة الأمم المتحدة عضوًا واعترافها واحتكامها للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي إضافة إلى علاقاتها المميزة مع العالم الغربي، الولايات المتحدة بالذات وسماحها للمسلمين الشيعة بالحج.
قبل كل ذلك، تختلف حول الإمرة، فترى أن ما تسميها الخلافة، يجب أن لا تعقد لغير القرشي استنادًا للحديث النبوي (الخلفاء من قريش)، بينما تنتمي عائلة آل سعود إلى عنزة في حين يقدم داعش خليفته كهاشمي قرشي.
لكل هذا وغيره تطلق داعش على الأسرة السعودية الحاكمة (آل سلول) وهي تسمية لها دلالات تاريخية ترتبط بشخصية المنافق عبد الله بن أبي سلول الذي كان يتآمر مع الكفار واليهود ضد النبي محمد وبالتالي إسقاط نفس الدور الذي لعبه عبد الله بن سلول على آل سعود. كما أن داعش لا تعترف بتسمية السعودية التي تطلقها على البلاد فتسميها بلاد الحرمين تارة، وكل مقاتل سعودي الجنسية تمنحه كنية سلفية وتخيره بين إطلاق لقب جزيري عليه (نسبة للجزيرة العربية) أو اسم مدينته أو عشيرته.
في الطرف الآخر يعتبر السعوديون أن تنظيم داعش هو مركب بين الخوارج من إرهابيي القاعدة ومن بقايا حزب البعث العراقي. وفي الحقيقة، فإن هناك اختلافًا في الأولويات بين تنظيم داعش وحزب البعث العراقي وتنظيم القاعدة، فداعش هو التنظيم الأقسى والأكثر تجاهرًا بجرائمه بين هذه التنظيمات، إذ يعتبر داعش كل من لا يبايع خليفته (أبا بكر البغدادي) كافرًا مرتدًا حاله كحال المرتدين على خلافة أبي بكر الصديق.
بينما تعتبر القاعدة أن أعداءها يمثلون فسطاط الكفر وهم الغرب (المسيحي) واليهود كأولوية، ثم تضع الشيعة والعلمانيين والأنظمة (الطاغوتية) كما تسميها في سلم الأولويات اللاحقة، ويعتبر حزب البعث الصدامي أن إيران والحركات الشيعية عدوه الأول. استفاد تنظيم داعش من خبرة ضباط صدام وعقيدة السلفية الجهادية لدى القاعدة، فاستخدم خطاب القاعدة التكفيري لتبرير جرائمه التي ينفذها بأدوات صدامية وبعقلية الإبادة الجماعية والتفنن بطرق التعذيب والإعدام.
ولو تعمقنا في تاريخ الإرهاب الإسلامي لوجدنا أن كل الحركات الإرهابية المتطرفة بدءًا من الجماعات الجزائرية وطالبان القاعدة وانتهاءً بداعش وبوكو حرام والنصرة تتسلل للمجتمعات السنية تحت واجهة التوحيد السلفية الدعوية ومن ثم تتحول للجهاد ضد الكفار (أجانب أو أنظمة أو طوائف أو أديان) وتصبح كتب ابن تيمية دستورًا لكل حركة إرهابية.
وغالبًا ما يبدأ الإرهاب بدرس عن السنة والتوحيد حسب الفهم السلفي، ثم ينتهي بقطع الرؤوس وسبي النساء وتدمير المجتمعات بنية وبشرًا، لذلك سارعت كل من حكومات كردستان العراق والأردن مثلًا، إلى منع ترويج كتب ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.
ورغم إعلان السعودية أنها منبر التوحيد والسنة في العالم الإسلامي، إلا أنها أجادت استخدام سلاح التطرف ضد خصومها، قبل أن تظهر داعش، فمن خلال مليشيا الإخوان (إخوان من أطاع الله) ركز آل سعود دعائم حكمهم في نجد والحجاز، وحاولوا التوسع جنوبًا نحو اليمن، وشمالًا نحو العراق والأردن، وحين انقلبت المليشيا المتطرفة ضد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود استطاع القضاء عليها وقتل زعيمها فيصل الدويش.
تكرر نفس الأمر مع جهيمان بن محمد الضان العتيبي الذي قاد انقلابًا فاشلًا في بداية الثمانينات على آل سعود الفاقدين للشرعية حسب رأيه، ثم مع بن لادن حليفهم في أفغانستان والذي ساءت علاقته معهم على أثر حرب الكويت في التسعينيات ورفضه استعانة السعودية بالقوات الأجنبية. وكانت السعودية قد استخدمت المتطرفين السلفيين قبل ذلك بقيادة بن لادن لمحاربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان بتنسيق وإدارة وتدريب أمريكي وباكستاني وتمويل وإشراف سعودي، ثم انقلبت القاعدة عليها.
وفي الفترة بين عامي 2003 و2006، شن جهاديون سعوديون من القاعدة حاربوا في العراق وأفغانستان وعادوا إلى السعودية هجمات على أهداف أجنبية وحكومية في المملكة. وعملت السلطات الأمنية على سحق خلايا القاعدة في البلاد وصدرت أحكام بالسجن على المئات منذ ذلك الحين.
لكن الكاتب السعودي عبد العزيز الخميس، مثل معظم الكتاب السعوديين، يلقي باللوم في التطرف داخل السعودية على عاتق الإخوان المسلمين وحدهم بدلًا من المنهج السلفي: “الدولة السعودية لديها خبرة كبيرة في محاربة القاعدة وهي تستعمل تلك الخبرة حاليًا في محاربة داعش”.
ويوضح الخميس أن “هناك أطرافًا داخل السعودية وفي الخليج العربي تمول الفكر المتطرف والفكر الإخواني خاصة”. واستطرد الباحث السعودي قائلًا إن “الفكر الإخواني هو أيضًا حاضن للتطرف.”..
من كل ما سبق يمكننا استنتاج أن داعش تسلل للداخل السعودي إذ صور للخليجيين أنه حامي حمى أهل السنة في العراق والشام، لكنه سرعان ما انقلب عن داعميه السابقين (سواء كانوا شعوبًا أو حكومات) في الطرف الآخر حاولت السعودية أن تكرر عملية التحاضن مع الحركات المتطرفة سابقًا مع داعش، لكن هذا الأخير يختلف عن كل التنظيمات السابقة، إذ يرفع شعاره (باقية وتتمدد) معززًا بأدلة حول خلافة على منهاج النبوة!
ولأن داعش يتمدد في كل البلاد العربية بتكتيك متصاعد، مشكلًا تهديدًا لكل الدول والمجتمعات، فلا حل لمواجهته بشكل منفرد، بل بتنسيق عربي – إقليمي شامل تشترك فيه دول الخليج وإيران والعراق وسوريا وحتى تركيا في جبهة واحدة، بدلًا من الاعتماد على التحالف الدولي الذي يمكن أن يكون تحالفًا دعائيًّا أكثر من أي شيء آخر، وانتظار مجزرة جديدة في جامع خليجي في البحرين أو عمان أو الكويت أو السعودية أو العراق!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست