في سياق تصاعد موجة الإجراءات النيوليبرالية والتحرير الجزئي لسعر الصرف وغيرها من الإجراءات التقشفية، والقرارات التعسفية في حق المواطنين، ارتفع عدد شباب الأطباء المتضررين، وزاد حنقهم الناتج عن الدفع بهم بعيدًا عن دفء الطبقة الوسطى، والاضمحلال التدريجي في فرصهم للنجاة والصعود الطبقي، بالإضافة إلى توفر مساحات أكبر للعمل السياسي والنقابي في العقد الأول من الألفية الجديدة، سمح بها مبارك ربما في إطار سعيه لتحسين صورته أمام الغرب تمهيدًا لتوريث الحكم لولده جمال، لتظهر اللجنة الشعبية لدعم فلسطين، وحركة كفاية، وكلها تحالفات تجاوزت الكثير من الأمراض النخبوية السابقة وسعت لعمل تحالفات سياسية واسعة للضغط من أجل زيادة هامش الحرية والحركة، انعكس هذا المناخ بالطبع على نقابة الأطباء، حيث قام مجلس النقابة المحسوب على جماعة الإخوان في عام 2005 بمطالبة مجلس الشعب بإنهاء حالة الطوارئ، ورفع القيود المفروضة على الأحزاب، وفي عام 2007 أعلنت النقابة رفضها للتعديلات الدستورية التي تلغي الإشراف القضائي على الانتخابات الرئاسية، ولم تخل تلك البيانات الصادرة من مجلس النقابة أو الجمعية العمومية من مطالبات بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وكذلك قام المجلس بالعديد من الزيارات (رسمية وغير رسمية) للوقوف على الحالة الصحية لأعضاء مجلس النقابة المعتقلين والرعاية الصحية المقدمة لهم، وقام بعقد المؤتمرات وإصدار البيانات للمطالبة بالإفراج عنهم، كما قام المجلس بدعم أسر الاطباء المعتقلين ماديًا ومعنويًا، إلا أن ما كان يعيب كل هذه التحركات هو تحزبها واقتصارها على المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، فجماعة الإخوان لم تسع لعمل جبهات واسعة داخل النقابة مستندة في ذلك إلى تحقيقها الأغلبية المطلقة؛ مما أصاب عقول أعضائها بالتكلس والتيبس مع غياب الانتخابات لـ19 عام، كما نجد ظلال دائمة لتوازنات الجماعة في الواقع السياسي على قرارات مجلس النقابة ومواقفها، فمثلًا عند قيام انتفاضة السادس من أبريل (نيسان) 2008، التي أعلنت الجماعة عدم مشاركتها بها، اكتفى مجلس نقابة الأطباء بإرسال خطاب للنائب العام يدين فيه تعامل الشرطة مع مصابي الأحداث وتقييدهم في المستشفيات أثناء تلقي العلاج باستخدام الكلابشات، ومثال آخر هو تعطيل قرار جمعية عمومية بالإضراب في 2007 كما سنحكي في السطور التالية.
وفي نفس السياق ظهرت حركة «أطباء بلا حقوق» في أواخر 2007، وكانت عبارة عن تحالف سياسي واسع على أرضية نقابية، ضم أعضاء عن «حزب التجمع»، و«حزب العمال الشيوعي المصري»، و«حزب العمل» و«تنظيم الاشتراكيين الثوريين» و«تنظيم الإخوان» في خليط من شباب وشيوخ عاملين بالمهنة، وكانت أهدافهم متفاوتة، ما بين تحقيق كادر الأطباء، أو تحسين منظومة الصحة، أو القضاء على سيطرة الإخوان داخل النقابة، أو توجيه سهام النقد للشكل الخدمي الذي يروج له مجلس الإخوان عن النقابة، وهنا تجب الإشارة إلى مفارقة لطيفة، وهي أن نشأة الحركة، والأغلبية المطلقة لكوادرها المؤسسة كانوا من المشتغلين بالسياسة، ولولا هؤلاء ما نجح الكيان في التشكل والاستمرار، وبالرغم من ذلك فأحد أهم الخلافات التي ثارت داخل الحركة في مرحلة ما بعد الثورة كانت عن علاقة السياسي والنقابي، والتي على أثرها جرى التخلص من معظم الشباب المسيس داخلها.
نجحت بلا حقوق في الخروج من أسر العمل النخبوي الضيق والتعبير بصدق عن مطالب الأطباء بجهد وعرق مؤسسيها والمثابرة على فهم والتعبير عن مطالب الأطباء وهمومهم الحقيقية، والتوسع في دعم كل قطاعات العاملين بالصحة والدفاع عن حق المواطن في الصحة، كما كان مفهوم النقابة المناضلة والمدافعة عن حقوق كل الأطباء العاملين بأجر الذي طرحته الحركة يتحدى بعمق مفهوم النقابة الخدمية الذي يروج له الإخوان، وبالفعل نجحت الحركة منذ بدايتها في الجمعية العمومية في 2007 في الحصول على قرار بالإضراب، ولكن مجلس النقابة بقيادة حمدي السيد، عطل القرار قبل تنفيذه بأيام في مخالفة صريحة لقانون النقابة واللائحة المنظمة لها، وما كتبه عصام العريان للدستور في 2009 تعليقًا على هذا هو أصدق تعبير عن حالة ما حدث بعد ظهور «أطباء بلا حقوق»، فقد كتب أن مجلس النقابة الحالي يسعى لإقرار كادر الأطباء بأدب، وبطرق سلمية حضارية، بينما هناك جماعات أخرى تطالب بالكادر وتسيء لصورة الأطباء، وتريد أن تحرق البلد، مشيرًا بالطبع إلى حركة بلا حقوق.
كنت مشاركًا بنفسي ممثلًا عن الحركة في دعم اعتصام أخصائيات التمريض بجامعة المنصورة في 2009، وقيادة حملة جمع توقيعات لرفض نظام التكليف لدفعة أطباء المنصورة 2007، وعمل أول مؤتمر صحافي داخل نقابة أطباء المنصورة في 2009، والذي حضره مئات الأطباء الشباب، وتشكيل وفد من أطباء التكليف لزيارة الوزارة والنقيب بالقاهرة، بالتزامن مع اعتصام دفعة الأطباء المكلفين المطالب بالإخلاء من المناطق النائية داخل النقابة، وستكون هذه الدفعات الجديدة هي عماد حركة «أطباء بلا حقوق» في المستقبل.
بعد عمل مدونة للحركة وظهور «فيسبوك» بدأت الحركة في التوسع البطيء في محافظات أهمها القاهرة الكبرى، والإسكندرية، والمنصورة، وبورسعيد، طوال فترة ما قبل الثورة، وإن لم تتجاوز بالرغم من شهرتها المتزايدة 20 فردًا منظمًا على أقصى تقدير، وفي نفس الفترة ظهرت حركة شبابية أخرى للأطباء كانت بقيادة الطبيب الشاب أحمد عاطف للمطالبة بحقوق الأطباء، وظهر هو مع دكتورة منى في أحد البرامج الحوارية التي انتشرت في نفس الفترة مع الانفتاح السياسي النسبي، وفي نفس الفترة ظهرت حركة 6 أبريل كحركة تعبر عن طموح الشباب في التغيير.
مع اندلاع ثورة يناير (كانون الثاني) قام مجلس نقابة الأطباء مع الحركات النقابية المستقلة، وأبرزها بالطبع بلا حقوق، بإنشاء وإدارة المستشفيات الميدانية لإسعاف المصابين، كما قاموا بإدنة مهاجمة قوات الأمن للمستشفيات الميدانية، والقبض على المصابين أثناء تلقيهم العلاج بها، إلا أن الدور البارز كان للحركات النقابية المستقلة.
كان قانون 100 لعام 1993 قد سقط قبل الثورة بأيام، ولم تتح الثورة للنظام فرصة عمل قانون جديد، ليعود قانون 1969، وتخلو الساحة لجماعة الإخوان المسلمين كتنظيم وحيد قوي بعد سقوط الحزب الوطني وحرق مقراته، قام الإخوان باستخدام نفس القانون الموروث من العهد الناصري لمحاولة احتكار الحركة النقابية بقطاع الأطباء، فوقفوا حجر عثرة دائمًا أمام كل المحاولات الرامية لتعديله، وإعادة هيكلة العملية النقابية بما يوسع من مساحة المشارك القاعدية والتمثيل داخل المجالس الفرعية والمجلس العام بما يوازي ارتفاع أعداد الأطباء.
كما ألقت تحالفات الإخوان السياسية مع المجلس العسكري بظلال ثقيلة على أداء النقابة، فمثلًا بالرغم من قيام وفد من المجلس المحسوب علي جماعة الإخوان بأخذ تصريح من قبل النائب العام بزيارة بعض السجون والوقوف على الأوضاع الصحية للمسجونين، إلا أنه اتخذ موقفًا مخزيًا مما قامت به قوات الجيش من كشوف عذرية على المعتقلات في 2011، حيث رفضوا التحقيق مع الطبيب المجند المسئول عن هذه الواقعة، وعقد مؤتمر صحافي لمساندته، كما حاول مجلس النقابة عرقلت إضراب مايو (أيار) 2011 وحاول تزوير قرار الجمعية العمومية للالتفاف على قرار الإضراب، وكان لكل هذه الممارسات، بالإضافة إلى الواقع الثوري الذي عزز من المفهوم النضالي للنقابة على حساب المفهوم الخدمي، أثر كبير في تقليص مساحة جماهيرية الإخوان، ليس فقط بين عموم شباب الأطباء، ولكن أيضًا بين الأطباء الشباب المنتمين للجماعة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست