يحلّق بنا الخمايسي ضارب العقل في سماوات التفكير، الرواية مليئة بالدلالات والمعاني التي ستلمسها بقدر قدرتك على التحليق. حلّقت فرأيت عالمًا روائيًا تؤمن أغلب شحصياته بجهاز الفاحص العمري إيمانًا أعمى.. عندما ظهر الجهاز في البداية استنكروه ورفضوه، أنّى للعلم معرفة متى يموت الناس؟! لكنهم مع الوقت تأقلموا مع الوضع حين فُرض عليهم وآمنوا به، عدا ثلة من المتمسكين بدينهم رفضوه وإن صدق.

بمرور الوقت وتعاقب الأجيال أصبح الجهاز إلهًا – كما دعاه أحد شخصيات الرواية – وديانة أو معتقدًا آمن الناس به إيمانًا أعمى، لم يجرؤ أحد على مخالفة الجهاز، أمامك اثنتا عشرة ساعة فقط تتجاوزهم بعد يوم الوفاة المدون لك في البطاقة، إن لم تمت بأي شكل فعليك تسليم نفسك للهيئة الحكومية لتقوم بهذا، أو تنتحر وتوصم نفسك بالعار.. قليلون فقط هم من خالفوا هذه القاعدة وهربوا للصحراء عند موعد وفاتهم المكتوب لهم في البطاقة، أولهم هو ضارب الطبل علوان.

كل أهل البلد ألقوا اللوم على ضارب الطبل، قالوا إن فعلته شائنة، وأنه ليس هناك عاقل على وجه الأرض يهرب من موت آمن بين الأهل والأصدقاء إلى حياة هي مزيج كئيب من قلق ورعب وخوف! ضحكوا وهم يتندّرون بأن التفلسف ضيَّع عقل علوان

هكذا تندّر أهل البلدة عليه عندما حاول التفلسف والوصول للحقيقة.
الدوغمائيون يحاولون منع التفكير مدّعين بأن هذا أمر الله، وأن هذا دين الله، وما هو أمر الله كما صرخ الشيخ، هذا أمرهم. فكرة الصحراء بالنسبة للمدينة تشبه نظرية أفلاطون عن عالم المثل، كما يشبه سعى من يحاولون الهروب إليها فكرة نيتشه عن الإنسان الأعلى، ضارب الطبل هو زرادشت بقناع آخر.

بداية الجهاز وانتشاره تشبه بشكل كبير بداية الأديان جميعًا، يؤمن بها تابعوها بالوراثة إيمان أعمى دون محاولة التفكير ولا التأويل، آمنوا بأن حقيقة غير مؤكدة أفضل من وهم مؤكد.

عندما عرف الناس متى يموتوا عمّ البؤس، المعرفة تقتل الروح، الجهل أكبر نعمة، هكذا تحدث علوان.. شخصيات الرواية انقسمت في رؤيتهم للموت والحياة، لم يعد أحد يهتم بأمر الحياة، الجميع يرى موته نُصب عينه ولم يبحث، منهم من بحث عن كسب المال وكنزه حتى لو عمل قوّادًا، والخواجة يبحث عن فتوحات جديدة دون الاهتمام بدماء الغير، والحفّار لم يدخل الصحراء مختارًا فخرج منها بحيرة أشد مما دخلها، وآخر كان كل شأنه ولديه والتفكير فيهما ولم يهتم بتحقيق شيء مما بنفسه، كان يمكن لهم أن يحيوا ويُخلّدوا لكنهم اختاروا الموت.

كشف الخمايسي في النهاية جزء مما أراد أن يقوله طوال الرواية، وهو قلب المعدول، عندما فسر الشيخ القرآن وقال: بأي كل الآيات التي تتحدث عن الموت لا تحتكر معرفته عليه، وفي الآية التي تتحدث عن أن للإنسان أجلين: أحدهم خاص بالله لا يعرفه سواه لا يتأخر عنه الشخص ولا يتقدم، وآخر يمكن أن يكتشفه الإنسان بالعلم بشكل تقريبي يخطأ كثيرًا.

بهذا الحل يضرب الخمايسي مثال لكنه يترك الآفاق مفتوحة للمزيد من التحليق. إن كان هذا فقط هو غرض الخمايسي من الرواية فأعتقد أنه لم يحلق في سماء روايته، لكن الأغلب وبناءً على النهاية أنه أراد أن يضرب الطبل منتظرًا منا أن نسمعه ونحلق أكثر. لكن لو حُذفت جزئية الحكيم والفتى الصيني ما كنت سأشعر بفرق، ستستقيم الرواية بعدم وجودهما أيضًا.

بعد الحديث عن الموضوع والفكرة أقول أنني وقفت عاجزًا عن الكلام أمام البناء السردي، ما هذه المهارة السردية الفائقة! أن يكون النص كله متّصل دون أي ألتباس في القصص لهو أمر عظيم، كعصفور رشيق يقفز الكاتب بالسرد ما بين الفقرات مستعرضًا مهارته دون أي تكلف.

ضارب الطبل رواية مميزة، تسعى للطرق على العقل محاولة تحريره من جموده.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد