قبل بلايين السنين، في قديم الزمان، ظهرت إلى الوجود خلية، لا أحد يعلم من أين ظهرت، وكيف، ولماذا! فقط ظهرت من تلقاء نفسها! ثم أخذت تلك الخلية تنمو وتتطور، دون أن يقولوا لنا كيف ولماذا، المهم أنها نمت وتطورت، وانكمشت بالحرارة و«تبردت بالبرورة»، بل انقسمت وتشعبت، لتأخذ ـ مع الوقت ـ ما لا حصر له من أشكال وكائنات تنبض بالحياة، فتحولت إلى شجرة بطيخ، أو شجرة موز، أو شجرة رمان، أو شجرة فستق حلبي، أو شجرة زيتون، أو شجرة نخيل، أو شجرة لبخ، أو ديناصور، أو نملة، أو بعوضة، أو قنفذ، أو فراشة، أو حوت، أو فيل، أو ضبع، أو عنكبوت، أو تمساح، أو فقمة، أو لقلق، أو شمبانزي، أو إنسان! هذا هو حرفيا جوهر ما تقول به النظرية الداروينية التطورية العصماء! ثم يزعم أصحاب وسدنة وكهنة تلك النظرية العباقرة أنهم يتحدثون عن العلم، وينطلقون من العلم! مع أنك لو جئت بطفل نابه في السابعة من العمر وحاولت إقناعه بذلك الهراء، وليس تلقينه إياه، لظننته انفجر في الضحك، وظن بك الجنون!
وفي محاولة محاولة يائسة؛ لإثبات صحة نظريتهم، المستحيلة عقلًا، يتمترس أصحاب النظرية التطورية «الخنفشارية» خلف خدعة يمكن أن أسميها «خدعة الزمن». فهم يدّعون أن ظهور تلك الخلية المزعومة وتطورها وتفريخها قد حدث منذ مليارات السنين! وبما أنه لا أحد بالطبع يستطيع العودة مليارات السنين إلى الوراء؛ كي يتحقق من صدق تلك الادعاءات «المريخية»، فإنهم يأخذون «راحتهم على الآخر» في الهذيان، «ما شاء لهم خيالهم »!
وهذا يذكرني ـ بشكل من الأشكال ـ بنكتة قديمة عن جحا والحمار؛ تقول النكتة:«إن هناك حاكما كان يملك حمارًا يحبه إلى حد كبير، إلى درجة أنه أعلن بأنه سيمنح مكافأة ضخمة لمن يتمكن من تعليم الحمار النطق، كالبشر! لم يتقدم أحد للمهمة المستحيلة، إلا جحا، مشترطًا أن يمنحه الحاكم مهلة عشرين سنة؛ كي يعلّم الحمار الكلام! وافق الحاكم الأحمق سعيدًا، والحمق داء معظم الحكام، لكن الناس لاموا جحا، وقالوا له: (أجننت يا جحا!) أنت توقن استحالة تمكنك من تعليم الحمار النطق، وسيقوم الحاكم بقطع رأسك في نهاية المطاف، بعد أن تخفق في إنطاق الحمار. فأجابهم: (لا تقلقوا، فمعي سنوات مديدة لفعل ذلك، وأثناء تلك المدة الطويلة، فإن واحدا منا نحن الثلاثة سيموت حتما: أنا أو الحاكم أو الحمار!)» وهذا بالضبط هو منطق دعاة النظرية التطورية، فهم يحيلونك إلى الماضي السحيق قبل مليارات السنين، وعليك أن تؤمن بما يتخيلون أنه قد حدث أيامها! فنعم العلم ونعم العلماء!
وهنا، أرجو أن تشاهدوا هذا الفيديو؛ حتى تتيقنوا بأنفسكم من أن الكثيرين ممن يسمون بالعلماء وطلبة العلم يؤمنون بالنظرية التطورية إيمانا أعمى، لا يستند إلى أدلة علمية يعتد بها، وكثير من الناس لا يستخدمون عقولهم حقا، بينما يتبجحون في الوقت ذاته بأنهم أهل العلم والعقل!
https://www.youtube.com/watch?v=XI_vtPRckks&spfreload=10
وليتهم يكتفون بذلك؛ بل إنهم كلما وجدوا بقية عظمة من كلب ميت، أو مِفصلًا من سحلية، أو ضلعًا من فأر، وهي لقطة لا يمكن بحال من الأحوال أن تعود إلى بلايين السنين، حتى يسارعوا إلى الرقص ابتهاجًا بأن تلك الموجودات تدعم نظريتهم العتيدة التي تتنبأ بما حدث، وما كان في غابر الأزمان منذ بلايين الأعوام! وعليك يا صاحبي هنا أن تغلق فمك وأن تنصت إليهم، دون اعتراض، وأن تسلم بمزاعمهم بانبهار، فهذا هو العلم في عرفهم! وأنت مجرد جاهل غارق في بحر الخرافات والظلمات، ما دمت تقول بأن هناك إلهًا قد أبدع كل الكائنات دفعة واحدة!
إننا نجدهم يزعمون أن أعضاء الكائنات قد تطورت على نحو معين مختلف عن غيرها؛ تلبية لمتطلبات البقاء، وهو زعم سخيف مثير للسخرية، فالزرافة ـ مثلًا ـ لا يندر أن تعيش في نفس البيئة، وعلى بعد أمتار قليلة من البيئة التي يعيش فيها الحمار الوحشي، أجلكم الله، وتأكل تقريبًا ما يأكل، فلماذا، وكيف تطورت لديها تلك الرقبة الطويلة، ولماذا لم تأكل من حشائش الأرض مثل الحمار، وتجنب نفسها عناء «نشفان الريق» وهي تتطلع إلى ما على الأشجار من وريقات! وهل يمكن أن تتطور لدى الحمار رقبة مماثلة فيما لو ظل يحاول لمليار سنة مط رقبته، والاقتيات على أوراق الأشجار الشاهقة الارتفاع! سؤال أوجهه للحمير الوحشية؛ فلعل عندها الجواب، هذا إن ظلت على قيد الحياة، ولم تنقصف رقابها أو تموت جوعًا؛ وهي تحاول التحول إلى زرافات!
ولو عدنا إلى أيام سيء الذكر داروين، الذي تشكل بعض صوره إثباتًا على أنه قد تطور عن مزيج من القرد والكنغر والسنجاب، لوجدنا أنه قد صاغ نظريته بناء على اكتشافات بائسة، تمثلت في تغير طفيف في أشكال مناقير بعض الطيور بفعل البيئة والتغير في نوع الطعام! لكنه، ويا للعجب، قفز من ذلك الاكتشاف البسيط المحدود الهش، ليجعله أساسًا للزعم بتحول ملايين الكائنات إلى كائنات أخرى مغايرة تماما، وهو ما لم يثبت، وما لا يمكن أن يثبت. فالديناصور مثلًا لم يكن خنفساء أو ما يشبهها أو ما هو في حجمها في يوم من الأيام، إلا في أوهام المخرفين!
ومن الأدلة الجلية على أن الإيمان بالنظرية التطورية «ليس موضوع احترام للعلم ولا يحزنون»، أن الملحدين هرولوا إلى تبنيها ودعمها وترويجها بمجرد إعلان داروين عنها، بالرغم من سطحية وجزئية ومحدودية الأدلة العلمية التي قدمها، وعدم كفايتها بحال من الأحوال للانطلاق منها للتعميم والادعاء بأن الإنسان قد تطور عن كائنات دنيا. كما طفقوا يلفقوا الشواهد والأدلة، ويفسروا الكشوف والحفريات على هواهم لتعزيزها. فالأمر كان وما يزال يتعلق برغبة ملحة عند معاشر الملحدين لإيجاد أي قشة يتمسكون بها لرفض الإيمان بالله.
أما لماذا يستسيغ بعض المسلمين ذلك الهذيان ويرددونه، مع إحسان الظن بهم وبنواياهم، فلأننا ابتلينا بحالة من الانسحاق الحضاري أمام كل ما يصدر عن الغرب، مهما كان موغلًا في الحماقة والسفه. بما يذّكر بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال فمن».
والواقع أن لمسألة الانبهار بالغرب صلة بتلك الإشكالية القديمة في تاريخنا الإسلامي، أي إشكالية الصراع بين النقل والعقل. فقد قرر البعض ـ متأثرين بالفلسفة اليونانية ـ أن يعطوا الأولوية لما تصل إليه عقولهم من تفسيرات وفهم، حتى وإن كان ذلك يعني الإطاحة بالنصوص المقدسة أو إجبارها على أن تقول ما لم تقله، وعلى أن تنصاع لفهمهم البشري النسبي المحدود، دون أن يدركوا، أو أن يكترثوا، على ما يبدو، بأن ذلك يخرجهم من دائرة الإيمان ويقذف بهم إلى حظائر الهرطقة والزندقة.
ففي الإسلام لا اجتهاد فيما فيه نص، ومن ينكر الدلالات الواضحة والمباشرة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويحرفها وفق مزاجه، يكفر بما أنزل على محمد! وهنا يمكن الإشارة إلى بعض المتطفلين على العلوم الشرعية، الذين ينكرون مثلًا عذاب القبر، بالرغم من وجود أحاديث صحيحة قطعية الدلالة بشأنه، فهم يضربون تلك الأحاديث بعرض الحائط، ثم يصرون على أنهم من المسلمين الأتقياء الذين يؤمنون بكلام الله ورسوله، بل على أنهم من العالمين العارفين المتبحرين في الإسلام!
إن لسان حال البعض من المسلمين المنادين بالنظرية التطورية يقول: بما أن الغرب قد أحرز قدرًا هائلًا لا يمكن إنكاره من التقدم العلمي والتقني، وبما أنه أقوى منا وما يزال يستعمرنا بأشكال مختلفة، فعلينا أن نتلقف كل ما يأتي به، وكأنه وحي منزل من السماء، لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه! مع أن ما يسميه الغرب علمًا، هو في كثير من الحالات مجرد لغو؛ فمثلًا: ما يسمى بالعلوم الاجتماعية، هي في كثير منها مجرد تهويمات وتنظيرات وفلسفات وأيديولوجيات وتعميمات متعسفة وانطباعات وآراء شخصية، ولكن يكفي أن يخرج أحدهم من جامعة هارفرد مثلًا بنظرية أو فكرة، مهما كانت سخيفة ومهلهلة، حتى يجعلنا اسم الجامعة نكاد نصعق ونأخذ الأرض تهيبًا وإجلالًا وقد انعقدت ألستنا، فنتعامل معها وكأنها إعجاز فكري علمي مقدس!
إن علينا أن ندرك أنه على الرغم من وجود كثير من الحقائق العلمية الصلبة والراسخة، إلا أن العلم في الوقت نفسه هو ميدان فسيح للنسبية والتذبذب والتباين بخصوص الكثير من الأمور. فمثلًا يحار المرء حقًا في أن يصدق أو لا يصدق ما يقوله أهل العلم تجاه كثير من المأكولات والمشروبات. فاليوم نقرأ مثلًا خبرًا علميًا يفيد بأن القهوة مضرة للقلب والشرايين، وبعد أيام نقرأ خبرًا علميًا آخر يقول إنها ليست كذلك، بل إن العكس هو الصحيح، وبعدها نطالع خبرًا ثالثًا ينسف ما جاء في الخبرين الآخرين، لتتعدد الأخبار المتضاربة إلى ما لا نهاية أحيانًا. وكم ينسحب هذا المثال البسيط على أشياء كثيرة، وربما تستعصى على الحصر المسائل التي ما تزال قيد النزاع الجذري المحتدم بين أهل العلم. ويمكن تتبع فصل ملتهب من فصول ذلك النزاع، فيما يختص بالنظرية التطورية، موضوع حديثنا، فالصراع هو على أشده بين أنصار النظرية وخصومها لتفنيد مقولات بعضهما. ولأننا نعيش في عالم معاد للدين أشبه بالغابة التي تدار بالبلطجة وفرض الرأي بالقهر والغصب والاقتدار، حتى في العالم الأكاديمي الذي يهيمن عليه أنصار الاتجاه العلماني واللاديني؛ يتم قمع وتهميش مناهضي تلك النظرية، بل طردهم من وظائفهم في بعض الحالات، بالرغم من الحجج العلمية الدامغة التي يقدمونها على صواب أطروحاتهم. ومن يستبعد صحة كلامي، أحيله، كمثال بسيط يعكس مدى نزاهة الأوساط العلمية الغربية، إلى قصة المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفنغ، الذي فصل من عمله ولوحق وسجن لمجرد أنه ألف كتابًا يشتمل على حقائق ووثائق تشكك في دقة الرواية الصهيونية المضخمة والمبهرة عن المحرقة!
كل ذلك ينبغي أن يجعلنا نعي أن قدرات العلم ومخرجاته محدودة ونسبية ومتأرجحة بوجه عام، وأن علينا ألا نأخذ كل ما يقول به المشتغلون فيه كمسلمات قطعية غير قابلة للنقاش والنقد والطعن والدحض، وبخاصة فيما يتصل بقضايا خطيرة ومصيرية، مثل قضية التطور، التي قد تجعل القائل بها يُجرجر إلى جهنم، لكفره الضمني بآيات وأحاديث صريحة تؤكد الخلق المباشر.
وكبرهان سريع هنا لإثبات الخلق المباشر المناهض لفكرة التطور، جاء في الحديث النبوي الصحيح: «خلق الله آدم على صورته…». وبغض النظر عما إذا كان الضمير في كلمة صورته يعود على الله تعالى أو على آدم عليه السلام، فإن الحديث لمن يفهم العربية يجزم بأن آدم قد خلق بشكل مباشرعلى صورة معينة، وأنه لم يتطور عن كائنات أخرى مغايرة للإنسان، وهناك في الواقع آيات وأحاديث كثيرة جدًا تدعم هذا الفهم. ومن ثم فإن القائل بالنظرية التطورية للإنسان يتورط في نسف النصوص المقدسة أو تحريفها وإخراجها عن موضعها؛ كي توافق مراده المسحور بمقولات الغرب الضالة المضلة، وأظنكم تستطيعون التنبؤ بالمصير الأخروي لمن يفعل ذلك!
وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد أن من يسمون بالعلماء في الغرب هم ليسوا ملائكة تحفّهم القداسة والنزاهة والموضوعية دائمًا، بل هم بشر مثلنا، تحركهم وتوجههم في كثير من الحالات تحيزاتهم الأيديولوجية والفكرية. أي أنه لا يندر أن يعملوا على ليّ عنق الوقائع والمكتشفات، بل على تحريفها أحيانا، وربما تلفيقها، لخدمة مرجعياتهم وقناعاتهم الشخصية، وربما مصالحهم الذاتية. ولعلكم سمعتم عن كذبة «إنسان بلتداون» الشنيعة، عندما زعم بعض «العلماء» المرموقين في إنجلترا عام 1912 عن اكتشافهم الحلقة المفقودة المزعومة بين الإنسان والقرد، ليتبين لاحقًا بعد أكثر من أربعين سنة أن أولئك العلماء الأجلاء الأفاضل قد قاموا بتجميع كاذب لهيكل بشري من كائنات مختلفة تنتمي إلى عصور مختلفة، وادعوا أنه حلقة الوصل بين السعدان والإنسان في إطار عملية التطور!
وفي سياق قريب، كانت المدعوة مارجريت ميد، وهي «عالمة» أمريكية شهيرة تعد من مؤسسي حقل الأنثروبولوجيا، قد أقدمت، دون أن يطرف لها جفن، في فضيحة تاريخية، على اختلاق سلوكيات بشرية غير موجودة ونسبتها إلى بعض القبائل البدائية، لدعم مزاعمها حول القول بعدم وجود فروق طبيعية بين الذكور والإناث، وتشكّل الطبيعة البشرية بصورة كلية حسب تأثيرات البيئة الاجتماعية!
وإذا ما يممنا أنظارنا صوب السماء، وجدنا أن الترهات التي يتبناها حملة النظرية التطورية تمتد أيضا إلى ما وراء النجوم. فمن يؤمن بتلك النظرية، نجده غالبًا يزعم أن الكون قد وجد، دون موجد من اللا شيء! بل إن أحد جهابذتهم، المدعو لورنس كراوس، قد قام قبل سنوات قليلة بالتفوق على نفسه، وعلى كل منطق ممكن على صعيد العبث والضلال، فقام بتأليف كتاب أسماه: «كون من لا شيء»، ليحاول أن يثبت أن الكون قد تشكل من لا شيء، دون الحاجة إلى قوة فوق طبيعية لإيجاده، مؤكدا أن «اللاشيء» الذي تشكل منه الكون هو في واقع الأمر شيء! والمستفز في الأمر أن ذلك الهذيان الذي يتعارض، حتى مع منطق اللغة، يسوَّق للناس على أنه إبداع غير مسبوق، ويتم ترديده من جانب معاشر الببغاوات التطوريين المنكرين لوجود الله على أنه فتح علمي مبين!
وأخيرًا، لا تغتروا بالأسماء الكبيرة والجامعات المرموقة والكلمات الطنانة والمصطلحات الغامضة المرعبة التي يقذفنا بها الغرب، التي لا يجرؤ السذج المستلبون منا على رفضها أو حتى على مراجعتها أو نقدها؛ خوفًا من اتهامهم بمعاداة العلم، فالعلم الحقيقي منها ومن أصحابها براء، وهي ليست في كثير من الأحيان أكثر من فيلم هندي، وفيلم سيئ الإخراج أيضا!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست