في إحدى اللقاءات مع المخرج المكسيكي أليخاندرو آناريتنو قال: «إن سبب صناعته للأفلام، هو أن نتواصل معًا ونعبر عن أنفسنا»، ولكن ماذا إذا أصبحنا غير مفهومين وفقدنا القدرة على التواصل مع من حولنا يوميًا، واختلفت اهتماماتنا عنهم، وأصبحت حكايتنا بالنسبة لهم بلا أية قيمة؟ ماذا أصبح العدم هو النهاية الحتمية التي نصل لها في كل مرة نرفع فيها أصواتنا لنعبر عن أنفسنا؟ ماذا لو تبدلت المعاني وطغى القبح على الجمال ليصبح القبح هو المقياس في الحكم على الأشياء؟ ماذا لو أصبحت الحياة بالنسبة لنا صراعًا يوميًا نحاول فيه أن نستمتع بما تبقى من جمال حولنا؟ سألت نفسي كل هذه الأسئلة بعد مشاهدتي لفيلم «رسائل البحر» للمرة الثانية لداوود عبد السيد، اخترت أن أتحدث هنا عن اثنين من أهم أفلام عبد السيد ربما أوضحوا لنا أفكار هذا  المخرج العظيم.

1- رسائل البحر (2010)

يحيى الذي يقوم بدوره آسر ياسين الطبيب الذي يهرب إلى الإسكندرية ملاذه الأخير، بحثـًا عما تبقى فيها من جمال وبعيدًا عن القاهرة بقبحها المادي الذي طغى عليها، يحيى الإنسان النقي الذي لم تلوثه الحياة الذي يحب الموسيقى الكلاسيكية ويحاول أن يرى الجمال في الأشياء، مصاب باضطراب في النطق كدليل على فقدان القدرة على التواصل فيما بيننا، لم يكتف المجتمع فقط بعدم الاهتمام بالمظهر الجمالي وفقدان التواصل مع محبيه بل محاولة محوه تمامًا، فالمعلم هاشم يريد أن يقوم بهدم المنزل ذي المعمار الجميل؛ لكي يقوم ببناء مول، هذا هو العالم الذي أصبحنا نعيش فيه باختصار أشخاص كالحاج هاشم يسعون بكل ما أوتوا من قوة للماديات، هو السلطة الغاشمة التي لا تعترف بالفن أو الحرية أو الجمال وكل ما تسعى إليه هو المصلحة الشخصية، هم من يحاربون كل من يفكر في أن يقف في طريقهم بمبادئه فيحاولون استمالته بالأموال في البداية ثم يقومون بالتضييق عليه بكافة الطرق والأشكال.

الوضع في مصر لم يتوقف عند طغيان القبح المادي فالبيوت متلاصقة والمساحات الخضراء شبه منعدمة، ولكن على مستوى الفنون أيضًا التي قلت بشدة فانظر إلى عدد الأفلام الهادفة التي تقدم فنًا حقيقي التي تخرج كل سنة، فأقصى آمالنا أن يخرج فيلم ذو قيمة فنية عالية أو فيلمان، ومعظم أفراد المجتمع ينظرون للفنون على أنها تضييع للوقت ولا طائل منها.
الفيلم هو تجسيد لصراع الإنسان لكي يحافظ على ما تبقى من جمال، صراع ضد انتشار القبح وانعدام المبادئ، صراع قابيل مع النسيان الذي سيمحو كل ذكرياته إذا قام بعمل العملية لكي يتخلص من الورم في مخه، فماذا لو قام بعمل العملية وولد إنسانًا جديدًا بلا ذكريات وسط هذا العالم الوحشي الذي لا يرحم، وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم يتحدث قابيل مع يحيى بعد هروبه من المستشفى قائلاً: «لو عملت العملية و فقدت الذاكرة، لو شوفتك مش هعرفك، مش هعرف حد، يعني مش هبقى أنا، هبقى واحد تاني اتولد من جديد، بس مش أنا ، قابيل اللي عارفينه أنا وأنت هيموت، حتي لو عاش بعد العملية برضو هيموت، هيبقى حد تاني بنفس الشكل ونفس الجسم بس من غير ذكريات».

لم يتركنا داوود عبد السيد دون إجابات؛ فبالرغم من إدراكنا للهزيمة أمام هذا العالم سواء أكان إدراكنا هذا متأخرًا أم لا، علينا أن نستمر في السير، وفي خلال مسيرنا هذا نحاول العثور على من يشبهنا ويحبنا لكي يساعدنا على مجابهة هذا العالم، فيحيى وجد ضالته في نورا التي تقوم بدورها بسمة، والتي يتحدث معها بلا اضطراب في النطق في أحد مشاهد الفيلم كدليل على أنها ساعدته على الخروج من محنته وهي فقدان التواصل، وقابيل وجد ضالته في بيسة «مي كساب» والتي ستساعده على استعادة ذكرياته بعد العملية، فالحب هو الملاذ الأخير الذي يجب أن نلجأ إليه حتى لو أحاط بنا القبح من جميع الجهات، كما أحاطت الأسماك الميتة التي يقتلها المعلم هاشم عن طريق استخدامه للديناميت بيحيى ونورا في نهاية الفيلم، بالرغم من هروبهما من كل ما يمت للمعلم هاشم وعالمه وذهابهما بالمركب إلى منتصف البحر.
ولكن هل في النهاية سنفهم كل شيء وشوقنا لأسئلتنا الكثيرة سيهدأ، وسنجد إجابات عن أسئلتنا سواء أكانت أسئلتنا الوجودية أو أسئلة عن موعد انجلاء هذا القبح، في الأغلب لا، وهو ما حدث في نهاية الفيلم عندما أخبرت نورا يحيى بأن الرسالة قد  تكون من بحار لأهله أو وصية أو صلاة راهب لكن المهم أنها رسالة من البحر ليحيى ذاته‏، فمضمون الرسالة ليس مهمًا بقدر الرسالة نفسها، لن نصل لإجابات مقنعة في كل الأوقات ولكن المهم هو أن نصل للحب كما وصل يحيى لنورا.

2- الكيت كات (1991)

«يوسف، عارف وأنت صغير كنت لما بتمشي بتدب على الأرض، دلوقتي أنت مش عاوز تلمس الأرض، عاوز تطير، عرفتك من خطاويك»

كيف تقوم بتحويل رواية بديعة إلي سيناريو غاية في الإبداع، بالرغم من قراءتي لكل أعمال إبراهيم أصلان تقريبًا إلا أن مالك الحزين المأخوذ عنها فيلم الكيت كات هي أقربهم لقلبي، الرواية والفيلم ببساطة عن الناس العاديين تماماً الذين لم يحظوا بموهبة تؤهلهم للشهرة أو تدر عليهم الأموال، ولم يولدوا لأب وأم أغنياء، هم أشخاص عاديون يحاولون اختلاس بعض السعادة من العالم، عن أحلامهم الصغيرة التي لم تكتمل وآمالهم المحطمة، عن حكاياتهم الصغيرة التي تدور فيما بينهم يوميًا ليحافظوا على قدر ولو بسيط من الحيوية في عالمهم الصغير المليء بالفقر والجهل والإحباط ، فالشيخ حسني الضرير كييف الحشيش ويعزف على العود ويغني ويحاول أن يضحك دائمًا، بالرغم من كل ما يمر به، فقد أضاع البيت بعد أن باعه واشترى بثمنه مخدرات لكي ينسى بها آلامه بعد وفاة زوجته، أما يوسف ابن الشيخ حسني فأحلامه لا تليق بهذا المكان الصغير على أحلامه، ويريد السفر يريد أن يذهب بعيدًا عن الكيت كات وواقعها المرير، وفاطمة التي تبحث عن الحب في وسط كل هذا بعد أن تم تزويجها من شخص لا تحبه قام بالسفر إلى الخليج.

أداء محمود عبد العزيز لا غبار عليه وواحد من أعظم الأدوار في تاريخ السينما المصرية، والموسيقى التصويرية للعبقري راجح داوود نقطة مضيئة أبرزت أحداث الفيلم، أما داوود عبد السيد فاستطاع أن يمزج الواقعية بالرمزية بالكوميديا السوداء، فمن منا لم يضحك وهو يشاهد الكيت كات، في الوقت نفسه استطاع عبد السيد باقتدار أن يرمز للمجتمع وما يمر به من أزمات اجتماعية، ويعرض لنا أشخاص الفيلم وآمالهم المحطمة دون أن يجعل منهم ملائكة، فهم في النهاية بشر يخطئون أحيانًا ويصيبون أحيانًا أخرى، وبالرغم من ذلك تتعاطف معهم وتحبهم طوال أحداث الفيلم، هناك شخصيات من الرواية في وجهة نظري من الممكن أن يتم صنع أفلام لها وحدها وستصبح أفلامًا جميلة كشخصية عبد الله القهوجي الذي كان مغرمًا بنور زوجة الشيخ حسني، أو الأسطى قدري الإنجليزي، ولكن هل لو قرر أحدهم أن يأخذ بعض شخصيات مالك الحزين التي لم يتم ذكرها في الكيت كات ويقوم بصنع فيلم منها ستكون بعظمة الكيت كات؟ في الحقيقة لا أظن أن هناك على الساحة حاليًا من يجاري عبد السيد في قدرته على إخراج سيناريو فلسفي رمزي تستمتع به، الكل يسعى إلى القصص المغلفة المضمونة التي ستنال رضا الجمهور.

الجميع أحب الشيخ حسني لأننا دائمًا نحب من يكمل الطريق مبتسمًا حتى لو امتلأ الطريق بالآلام والأحلام الممزقة، نحب من يحاول أن يقف الند للند لهذه الدنيا، ويخرج عن المألوف، فبالرغم من أن الشيخ حسني لا يبصر ظل مقتنعًا أنه يرى وتعامل مع الجميع على هذا الأساس، أحببناه لأننا رأينا فيه جزءًا منا، رأينا من يعيش في واقع غريب ومرير ومع ذلك يستكمل المسير آملاً أن يغير الزمن الأمور وما آلت إليه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد