لا تغيبُ ثنائية الحياة والموت عن أحدٍ منا، ربما نَتناسى الشّق الأخير منها لانغِماسنا في الشّق الأول، ولكننا قد نكون فكّرنا ولو لِمرةٍ على الأقل في غايتنا الوجودية، وطريقة موتنا ومصيرنا بعد الموت.
تختلف الكثير من الديانات في اعتقادها بالحياة الأخرى، ولكنّ أغلبها يعتقد بحتميّة الموت نهاية لأفراحه، وأحزانه، وسعادته، ومآسيه. فلماذا نتمسك بالحياة إذن؟
الإنسان بطبعه يخافُ من المجهول، ومع أن قضيّة الموت، والحياة الأخرى بتفاصيلها وأخبارها قد وصلت إليه عبر الدّيانات المختلفة، فإنها تظل جُزءًا من عالم الغيب الذي لا يمكنه التواصل معه أو استقدام حدوثه، لذلك يتمسك بالجزئيّة المؤكّدة التي يعيشها، وهي حياته الحالية. وربما كان عالم الغيب هذا أحد صراعات البشر الدّينية على مر التاريخ.
ولكن كيف كانت نظرة الحياة والموت في نظر اللادينيين أو غير المعترفين بوجود الحياة الأخرى، وفي الأدب خاصّة؟
لقد حاول الإنسان منذ القدم إيجاد حلٍّ للموت بوصفه إشكالًا يهدد وجوديتهم؛ فانقسم أفراد العالم في مدى تقبلهم لجزء الثنائية الأخير «الموت» إلى انقسامات عديدة، رافقها ظهور مفاهيم واسعة، وكان منها «العبثية» التي انتقلت إلى أحضان الأدب، وأذكر عبثية كامو تحديدًا.
كان لثنائية الموت والحياة فلسفتها الخاصة في أدب كامو، وفي فلسفته العدميّة التي ترى أن الإنسان جاء من العدم، وما وجوده وحياته إلا جزء من محاولة إدراك العدم أو محاولة العودة المؤكدة إليه؛ لذلك فإن كل ما يحدث على وجه الأرض لا يعني العدميّ ولا يكترث له.
يؤمن كامو بالموت شيئًا حتميًّا ومؤكدًا حدوثه، لكنّه لا يؤمن بما قبل ذلك وما بعده من أفعال أو أحداث، وربما كان هذا ما ظهر في شخصيتيّ مارسو وباتريس في روايتي «الغريب» و«الموت السعيد»، اللتيّن أظهرتا هذه الفلسفة كما في بقية أعماله.
مارسو الغريب، الّلامنتمي، فقير المشاعر والأحاسيس، بل فقير الأخلاق بالدرجة الأولى، الذي يتلقّى في مَطلع الرواية برقيّة تُخبره بموت أمِّه، لكنه لا يكترث بذلك، ولا يهتم إن كانت قد ماتت اليوم أو أمس. ويتابع لامبالاته إلى أن ينغمس بجريمة قتلٍ لا أحد يمكن أن يعرف دافعها الحقيقيّ، غير انزعاجه من أشعة الشمس المسبّبة لقطرات عرقٍ في جبينه، ثم لا يكترث بأن تقوده قضبان السجن للإعدام أم لا!
وباتريس في الموت السعيد، الّلامنتمي أيضًا، الذي يُصوّر فيه كامو رحلة البحث العبثية عن السعادة قبل الموت، ولكن لا يجد باتريس هذه السعادة بعد أن بدأ بحثه عنها بجريمة قتل، ولا هو امتلكها حين امتلك المال والعائلة كما اعتقد؛ بل ها هو يجد نفسه سعيدًا عند موته، حتّى إنه أطلق على موته اسم: الموت السعيد، أو «الواعي».
المفارقة التي حدثت بين الروايتين، أنّه في رواية الموت السعيد أظهر كامو بعض مشاعر التعاطف والوحدة بعد موت أمه، إذ أقرّ أنّ حالة التعب والفقر التي عاشها معها كانت أفضل من تلك بعد موتها. كما أنه وفي «الموت السعيد» أيضًا قد صوّر لحظة الموت الأخير بشيء من الاكتراث، وربما كان هذا التصوّر هو ما يعيشه كامو في الحقيقية.
أراد كامو في الروايتين اللتين تمثلان وجهًا واحدًا أن يؤكد أن الهرب من مواجهة الحياة وتجاهلها لن ينفي حتمية الموت.
وفي الوقت الذي يُذكر فيه أن «الموت السعيد»، هي مقدمة، أو امتداد لرواية «الغريب»، وأنها لم تُنشر إلا بعد وفاة كامو، رغم اكتمالها، أتساءل:
هل حقًا كان باتريس هو الصورة الأولى والحقيقية لمارسو، وأن كامو فضّل مارسو في الغريب، على باتريس في الموت السعيد، لأنه بلا مشاعر، وبلا أدنى اكتراث؟! وهل حقًا أخذ شتات البحث والتفكير مأخذه من كامو، ليبرر القتل في سبيل الحصول على لحظة سعادة وجودية؟!
ربما لم يجد كامو إجابة على ألغازه، وربما رحلت معه دون تفسير، ويبقى أخيرًا إيمان الفرد من عدمه هو مُسيّر حياته.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست