لقد سبق وعبرت عن شعوري برغبة خجولة في تقديم الشكر لفيروس كورونا، وقد سردت عددًا من الأسباب التي دفعتني للإحساس بما يشبه الامتنان لهذا الوباء الذي جر معه ألمًا وخوفًا، ولكن أيضًا دروسًا وعبرًا، وأشياء طيبة وجميلة.. تحدثت بحماس وإيجابية عن التغييرات التي أحدثها منذ اجتاح العالم، وتوقفت في لحظة أذكر نفسي بأن الأمر يتعلق بوباء أفجع الكثيرين، وبأنني لست متيقنة من أن الصفقة رابحة، بالنظر لما أخذته هذه الجائحة وما أعطته… فقلت «شكرًا كورونا، ولكن…». إحالة على رابط التدوينة: https://sasapost.co/opinion/thanks-corona-2/
حينها، كانت الـ«لكن» التي أقحمتها بعد الشكر مرتكزة على معطيين اثنين؛ أولهما: أن هناك ضحايا كثر حول العالم توفوا بسبب إصابتهم بالفيروس وتضرر ذووهم وأحبابهم جراء ذلك، وثانيهما: أن حياة العديد من الناس أصبحت أصعب من أي وقت مضى بعد تضررهم اقتصاديًا؛ وفي الحالتين لخصت ما فعلته كورونا بالعالم في تغييرها لقيمة ومعنى الحياة: «هل ستتوقف؟» و«كيف ستستمر؟» كنت أدرك تمامًا، مثلي مثل باقي الناس، بأن كورونا اجتاحت العالم وغيرت ملامح الحياة… أما اليوم، فقد استوعبت أنها غيرت ملامح الموت أيضًا، وسأصوغها كالتالي: لقد فهمت أن «لحظة» الموت هي جزء من الحياة، وأن كورونا غيرت الحياة كاملة حتى آخر لحظة!
جملة كهذه سيفهمها غالبًا كل من فقد عزيزًا في ظل جائحة كورونا وظروف الحجر الصحي التي فرضتها؛ سيفهمها أقرباء الذين توفوا بسبب إصابتهم بكورونا، وسيفهمها أيضًا أقرباء الذين قتلهم كورونا دون أن يصيبهم حتى… فجميع هؤلاء غادروا الحياة بطريقة خاصة لا تشبه بتاتًا تلك التي اعتدناها… موت عاصف وبارد جدًا، يجعل الناس في الوقت ذاته تتجمد وتحترق.
موت كزوبعة يسبقها الهدوء، ثم يتبعها، لا تجد صعوبة في اقتلاع الناس قلعًا قاسيًا لأنهم أصلًا متباعدون ومتفرقون، يبذلون جهدًا كبيرًا في محاولة الثبات، لكنها تجرجرهم بسهولة، ثم تتركهم عالقين وسط فوضى من المشاعر، ضعفاء وعاجزين، ذلك أنهم لم يتعودوا على مجابهتها فرادى، بل ألفوا أن يفعلوا ذلك متجمعين، يستند بعضهم على البعض الآخر، وبهم يحتمون. وهذا ما يجعل من الموت في زمن كورونا موتًا عاصفًا.
وأما برودته فتمظهراتها كثيرة؛ ففي هذه الظروف الخاصة، لا يجتمع الأحباب والأقرباء حول الميت قبل أن يرحل ولا بعد ذلك؛ سواء بسبب كونه معزولًا أو لكونه متواجدًا بمكان بعيد لا تسعف ظروف الحجر أحبابه وأقرباءه التنقل ليضموه للمرة الأخيرة، وليهمسوا بكلمات رقيقة في أذنيه، وليطبعوا قبلة على جبينه، ثم ليودعوه بطريقة تليق بعظمة الموقف وخصوصيته؛ فيختزل الموضوع في عملية دفن بمراسيم خاصة، يقاد قبلها الميت مرفقًا بأقرباء مقربين فقط، محسوبين على رؤوس الأصابع، يتلقون بدل أحضان المواساة مكالمات على الهاتف، ويكتفون باستقبال تعزيات الكترونية تجعلهم يدركون على الأقل أن ما حصل حقيقي.
لأن موتًا كهذا يجمد العقل ويجعله يتخبط بين الحقيقة والوهم. في الواقع يصعب على من لم يستطع حضور جنازة متوفى من الأقربين أن يتقبل فكرة حدوث الأمر فعلًا، فيصبح معلقًا بين تصديق ما يقال له وميله لنكرانه كونه لم يلمس دليلًا ماديًا يثبت صحته؛ وكيف يتقبل المرء أن يكون أبوه، أو أخته، أو خالته، أو عمه قد رحل دون أن يكون لمصاب جلل كهذا أي أثر ملموس ومرئي؟ كيف يتجاوز الواقعة وهو مدرك لأن هذه اللحظة الخاصة والحميمة لم تشكل أي ذكرى ستحفر في عقله للأبد؟ كيف يقتنع بأنه قد فوت حدثًا كهذا؟ (بغض النظر عن كونه قد فعل ذلك مجبرًا).
حقًا إنه لموقف صعب جدًا، لن يستشعر مرارته سوى من اكتوى بناره؛ فبقدر ما تبدو طقوس الموت وأجواؤها باردة في هذه الظرفية بقدر ما تشتعل نار حارقة في صدور عائلات وأحباب المتوفين، تشبه تلك التي يخلفها الموت عادة، لكنها مؤججة أكثر بمشاعر يختلط فيها الإحساس بالعجز والغبن والوحدة والضغط، فضلًا عن انطباع يوحي بأنهم أجبروا شخصيًا على أداء ضريبة حماية المصلحة العامة غاليًا، بشكل يفوق طاقتهم.
وكل ما سبق يظهر بأن للموت كما للحياة طعمًا آخر مختلفًا في زمن أزمات كهذه، ربما لا يعني للمتوفين شيئًا، ولكنه يشكل فرقًا في عيون ذويهم وأحبابهم؛ ولأنني ذقت منه فإني سأستغل الفرصة لأقدم تعازي الخالصة لكل من فقد عزيزًا خلال هذه الفترة، فلم يتمكن من زيارته قبل توفيه، ولم يحضر جنازة لم تقم أصلًا… لكل من جلس في ركن من أركان بيته يبكي مصيبته وحيدًا في غياب من يعزيه ويمسح دمعه… لكل من لم يزل يحاول استيعاب الموقف ويجد نفسه تائهًا بين عدم المقدرة على التصديق ومحاولات التناسي… إنا لله وإنا إليه راجعون، والبقاء لله.
أما الراحلون، فرحمة الله عليهم جميعًا أينما كانوا ومتى توفوا؛ هي فقط دعوة مني لكم للدعاء بالرحمة والمغفرة والثواب لكل الذين غادروا خلال هذه الفترة العصيبة، فحرموا من لقاء الأحباب وتوديعهم، كما لم تقم لهم طقوس العزاء، ولم تشيع جثامينهم في الظروف المعتادة.. من لطف الله أن الدعوات تصلهم من كل مكان وفي كل حين، فلا نبخل عليهم بها!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست