في مجموعتها القصصية «الموت يريد أن أقبل اعتذاره» تُقدم الكاتبة نهلة كرم تجربةً مهمةً تعتمد على «قوة الخيال»، واستنطاق الجمادات والأشياء لتجري حواراتٍ عن بطل القصة أحيانًا، ومع هذا البطل في أحايين أخرى.

هذا الخيال سيراه القارئ عاملًا مشتركًا في غالبية قصص هذه المجموعة الفاتنة، الأمر الذي يُخرج تلك الحكايات من مرحلة التفاصيل التقليدية والقصص عن الحياة اليومية، إلى تقديم معانٍ إنسانيةٍ متنوعةٍ، من خلال قصص جاءت في سرد ذكي نرشحها للقراءة باستمتاعٍ وشغفٍ شديدين.

تبدأ قصة «دولاب معتم» بفتاةٍ تفتح «الدولاب» استعدادًا للخروج؛ لكنها تخرج من الغرفة قليلًا لترد على اتصالٍ تليفوني، هنا تبدأ قطع الملابس في إجراء حواراتٍ مع بعضها البعض؛ مثل «المعطف» الذي يتمنى الخروج لأنه «محبوس» في الدولاب منذ فترةٍ طويلةٍ، ثم على المنوال نفسه تتحدث «الجيبة» و«المعطف»، والطقم الرياضي، والفستان الأحمر الذي لم يخرج لمرةٍ واحدةٍ منذ أن جربته الفتاة في «بروفة المحل».

قصةٌ قد يراها القارئ عاديةً، لكنها في الحقيقة استخدام ذكي من القاصة لقوة الخيال في التأكيد على أهمية الحرية، الانطلاق، من خلال مجموعةٍ من الملابس التي تُريد مغادرة هذا «الدولاب» الذي أصبح سجنًا، وبالمناسبة فإن فكرة هذه القصة جرى استخدامها في أحد الإعلانات المصرية التي عُرضت في شهر رمضان الماضي، وكان يُذاع يوميًّا على نطاقٍ واسعٍ.

في قصة «قبل نهاية العالم» نحن هنا أمام لحظةٍ فارقةٍ، أبطال القصة يعيشون اللحظات الأخيرة للعالم، يشاهدون نشرات الأخبار التي أقسم مذيعوها على الاستمرار في تقديم الخدمة الإخبارية حتى النهاية، الكل يبحث عن متعةٍ أخيرةٍ، الأب يحاول منع أبنائه من الخروج، ابنته تريد أن تعيش آخر يومٍ فى الحياة مع حبيبها، زوجته وابنه يُريدان الخروج للحصول على الأموال التي تبرع بها الملك لرعيته، ويتردد أنها ستُلقى على الشعب بالطائرات، الفقراء يرفضون الحصول على أموال وطعام مليونير قرر التبرع بها، ويقول هؤلاء الفقراء إنهم تعودوا على «الجوع»، استعدوا لذلك اليوم؛ حتى يدخلوا الجنة، مشاهد كثيرة سنراها في هذه القصة التي تتخيل الاستعدادات النهائية ليوم نهاية العالم.

الخيال وأنسَنة الأشياء مستمران معنا في قصة «ثرثرة» التي تعتمد على علاقة فتاةٍ بكل الجمادات في شقتها، تلك الجمادات التي تتحدث ناقلةً مشاعر متضاربةً من الحب أحيانًا، والغضب في أحايين أخرى؛ هنا نجد السجادة الغاضبة من سير الفتاة فوقها بحذاء متسخ بالطين وماء المطر، أوراق المناديل توبخ بقية الأشياء لانتقادهم الفتاة التي يبدو أنها حزينةٌ، «المقعد» الذي يقول إنه مستعدٌ أن يتحمل جلوس الفتاة عليه طوال اليوم.

كل هذه «الجمادات» تريد معرفة سبب حزن الفتاة، يقولون إنّ هذا السر لا بد أن يعرفه «المحمول» الذي تمسكه في يدها طوال اليوم، يثير هذا الأمر غضب «التليفون الأرضي» فينتقدهم غاضبًا من الثناء على «الموبايل».

بقوة التخيل نفسها، وأنسَنة الأشياء، تأتي بقية قصص المجموعة مثل: «مج مبتور اليد»، «الموت يُريد أن يقبل اعتذاره»، «خيوط صغيرة»، حكايات مكثفة رائعة صاغتها الكاتبة ببراعةٍ شديدٍة، في عمل أدبي مبتكر وليس تقليديًّا.

تضم مجموعة «الموت يريد أن أقبل اعتذاره» قصصًا جيدةً أيضًا مثل «شروخ في حائط المنزل»، «عدة سنتيمترات فحسب»، «الشرفة الأخرى»، «الموت في الخارج فقط».

يصل عدد قصص مجموعة «الموت يريد أن أقبل اعتذاره» إلى 19 قصةً في 135 صفحة، بغلافٍ مميزٍ جدًا، وسرد رائع ذكي، ولن تجد قصةً أقوى من أخرى فى السرد، والمجموعة القصصية صادرة عن «دار العين للنشر» عام 2017.

إضاءة

الكاتبة نهلة كرم تخرجت في كلية الإعلام جامعة القاهرة عام 2010، صدر لها المجموعة القصصية «أن تكون معلقًا في الهواء»، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس لعام 2013.

كانت قصتها «حكاية من الصفوف الخلفية» من بين القصص الفائزة بورشة جوته، والتي أهلتها للفوز برحلة سفر لحضور معرض فرانكفورت للكتاب عام 2014.

سافرت إلى ميونيخ لحضور أحد المهرجانات الأدبية لقراءة قصتها الفائزة نفسها «حكاية من الصفوف الخلفية» خلال المهرجان.

صدر لها رواية «على فراش فرويد»، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس لعام 2015.

فازت بجائزة ساويرس الثقافية 2019 لثاني أفضل عمل روائي لشباب الأدباء عن رواية «المقاعد الخلفية» مناصفة مع محمد عبد الله.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد