ينتحي غموض الصمت مع دقات طبول الحرب، وتبدأ الأصوات تتعالى بين نفاثات طائرات تقلع وصدى تصاريح المعقبين والمعلقين ونهاية بوقع الصواريخ فتكبير هنا ونحيب لا ينتهي هناك!
المشهد ذاته يتكرر والحرب لا تزال في بدايتها! عدا كون مشاهدها تبدوا أكثر غرابة وتعقيدا إلا أن جذورها تلتقي عند صانعيها والضالعين فيها!
الحرب تبدو هذه المرة صعبة التحليل! فلأول مرة أقر بأنني وقفت عاجزا وحتى الآن عن تحديد صاحب الحق فيها – وكذلك وجدنا المعقبين لا يتفق اثنان بينهما! حتى إنه في الجماعة الواحدة تتعالى أصوات كثر رامية ومؤيدة في مشهد يؤكد الجهل العربي المصحوب بالغرور اللا مبرر!
أبعاد الحرب
ولنفهم القضية أكثر ربما علينا أن نقسم أبعادها كيفما يراها كل كيان فيها.
– الجانب الديني
هو الجانب الأكثر تأثيرا في الجمهور وأكثرها لا واقعية في ذات الوقت! فيتضمن ترتيبا لا منطقيا في ذهن متبنيه عقيدة في تحليل تلك الملحمة يجعله يغض النظر عما سواه من أوصاف لها تشمل أسبابها ونتائجها كما جرائم فرقته ودوافع عدوه المبررة على حد سواء! يصحبها نوع من السلطة الألوهية في تقرير مصير خائضيها إلقاء بالعلم التراثي الزاخر المضيء ليفصل مثوى من ماتوا فيها – وإن كنت لا أرى حتمية إلا لحناجر نساء الثكالى وأطفالهم وعيون رجال تبكي مفقوديهم بأن تبوء بالجنة كأي حرب! فيما يبقى بضع من شخوص خاضوها دفاعا عن الحق – ما لنا بتلك التأويلات على أية حال؟ فمتبنو هذه القضية يجتمعون على صفة واحدة وإن كانوا أعداء ألا وهي الكذب باسم الرب!
– الجانب السياسي
أو لنقل المصالح والحسابات السياسية التي تفرضها مجريات الحرب وتبعاتها لاحقا أوالأحلاف السياسية والجدوى المرجوة منها سابقا.
إنها العقيدة الأكثر صدقا ووضوحا في قذارتها؛ وإن كانت هي الأساس الحقيقي والسبب الذي تجمع عليه جميع الأنظمة والتحالفات الإقليمية في إرجاء قرارها للحياد، خوض المعارك أو التظاهر بذلك! فلا شك بأن الخامنئي لا يعير اهتماما كبيرا لخطر الإمبراطورية السنية في الأراضي السعودية الذي يحدق بأصول مذهبه الشيعي هناك! وكذلك لا ريب في أن ملك الأخيرة ذات المذهب الوهابي الأكثر معاداة للشيعة لم يدر في ذهنه رؤيا التمدد الشيعي المجوسي في أراضي السنيين في اليمن! لكنها وحدها المصالح تحكم فتلقي بنفوذها على سلطة دينية تغلغلت في تلك الأقاليم لتجر ورائها جيشا من المغفلين راسمة أبعادًا جديدة تبني خلالها دوافع تقود بها تلك الملحمة بلا قيود تحددها، فكما كنا نقول إنها الأسلوب الأكثر فعالية في تغييب عقول متبعيه عن تحديد تفاصيل الحرب وملامحها جاعلة من الوسائل المتاحة فيها بابا لا حصر له، غير مقيد بأخلاق أو شرعة مادام مثيروها راغبين عن تحديد معالمها إذا ما كانت ضد أتباع عقيدتهم.
جذور الحرب!
وعلى مدار السنين، يمكننا أن نجزم بحتمية اندلاع الحروب حروبا فكرية باردة قبل وقوعها ماديا بالسلاح! فمما لا شك فيه أن أيا من الطرفين لم يتوانَ عن تجييش أفراد الجانب الأول منذ اللحظة الأولى التي أقامت فيها مذاهبهم أسسها على العداء للطرف الآخر، إشارة لأن مشعلي فتيلها قد فنوا منذ مئات السنين بما قد دسوا تراثا مكذوبا في الدين ذاته تضمن آلاف المصادر والنصوص المختلفة، لم يتفق أي من ملفقيها على الكتاب الأكثر تقديسا في منهاجهم رغم ما دعا إليه ذلك الدستور صراحة في عدة مواضع! إلا أنه وتباعا لتلك المنظومة الأيدولوجية التي لم تنحصر بالمناسبة على الدين الإسلامي وحده بشهادة صكوك الغفران ورهبانية الحكم في العصور الوسطى نهاية بيهودية الدولة الأكثر تفضيلا عند إله الديمقراطية ادعاءً الولايات المتحدة الأمريكية – فنتج عن ذلك التحريض طويل الأمد أتباعا لا حصر لهم لتلك الفكرة التي تمثلت صورة قنبلة موقوتة انتظرت حتى انفجرت على هيئة جماعة من الدواعش هنا وأخرى من الحوثيين هناك وكلاهما يسعى مسيروها إلى الجانب الثاني المذكور أعلاه – السياسي – بلا ريب!
تناقض عربي زاد الطين بلة.
التناقض سيد الموقف إذا ما تحدثنا سياسيا لحال العرب، ورغم أن أرجاءه قد لا تحفل بتلك الاستقلالية التامة التي نعتقد ابتداء من معاقل أمريكا في خلجانها اللامحددة المعالم دونها ونهاية بأساطير القومية العربية المدثورة تحت أيدي دمى الدب الروسي تارة وعبيد الحرس الثوري تارة أخرى وتحت شعارات البعث التي بعثت أرواح العرب أمواتا إلى بارئها لا غير! – إلا أنه وبغضنا الطرف عن ذلك نجد الواقع العربي يحفل بتلك التناقضات التي أساسها إحدى الجوانب أعلاه إن لم يكن الأخير فيها بشكل غالب!
مهللين ورافعين أيديهم بالتكبير دعاء وانتصارا إذا ما قادت جحافل الرباعية كوكبة تحالفها ضد العراق قديما وسوريا وليبيا حديثا بلا أي تحفظ وجاعلين منها ساحة من الدماء تحفل بأتباع المتخاصمين في أفضل الوسائل تمثيلا للجيل الجديد من الحروب وموقعة بشعوبها أسرى بأيدي تلك النزاعات التي قد لا تلبث أن تنتهي باتفاق واحد ينهي سطور الدم بنقطة يصحبها قبلات السياسيين تصفع الطفل اليتيم للمرة الثانية بعد أن يتمته كما قد تسجله نشرات الإعلاميين لاحقا فيما ترتئيه لجان التفاوض لكل من إيران وأمريكا وكما قد حصل من قبل في لبنان وغزة وقديما جدا اليابان!
على صعيد آخر تستدعي تلك الأقاليم العربية جانبا آخر من ردود الفعل إذ تستنكر هجوما مصريا طال صنيعة عقائد بلورتها أنظمتهم متمثلة بداعش وردا على جريمة الأخيرة التي فاقت حدا كان قد قيده بها شيء من ضمير إنساني لم يتبقى في العالم اصلا!
وأخيرا دلالة أخرى على تناقض غير متواري يفرض بسلطته اللامشروعة دينا ولا عرفا غضا للنظر من تلك الأقاليم ذاتها إلا قليلا منها – وأخص الخليج ممن غضوا النظر عنها إن لم يكونوا قد شاركوها لوجستيا – إزاء الحلف الداعشي القاعدي التكفيري الذي تمثلته داعش وجبهة النصرة في سوريا وبيت المقدس في مصر، بينما تتفق جميعها على حوثيي اليمن احتجاجا على دعم إيران لهم في حين لا تجد حرجا لدعم أمريكا للتنظيم الأخير بالتوماهوك في ليبيا وسوريا!
مواجهة فوضى الإقليم!
سنصطلح جميعنا على أن لا وجود لمفهوم واحد يصف الإرهاب وأننا تباعا نشاهد موجة هوجاء منها لا يوقفها تصريح بمواجهتها أشبه ما يكون بعبارات battologize تتكرر بصورة فجة أفقدتها معناها وتأثيرها، أو اجتماعا ترأسه مجموعة من السياسيين أشبه ما يكونوا بـ muffin-wallopers في العهد الفيكتوري – نساء العزباوات أو الأرامل اللاتي يلتقين لاحتساء الشاي وتناول الكعك والثرثرة – إذا لم يصاحب ذلك ثورة حقيقية لا تشبه أيا من تلك الزائفة المقرونة فعلا بالدمار والجهل ولكن تستثير عالما من الناس ترتقي بهم أخلاقا وعلما يرتجى منها صورة تضاهي تلك التي رسمها ذوو الأصل الواحد واللغات المختلفة في القارة الاوروبية وتجعل من الجانب الكهنوتي غير متاح في النظر للعلاقات مع المجتمعات والدول الأخرى فلا تلقي بجهالة حثالتها على مجتمع أرهقه الفقر وضعف الحال لتنهش ما تبقى منه، بل تؤسس حضارة علمانية جديدة تجعل من كل مرجو وأمل ساكنيها حقيقة بدءا بمواجهة الكهنوت الديني وتغلغل سلطته، مرورا بإعادة تعريف لمفهوم القومية وانتهاء بتمكين لأسس العلم الحديث للسيطرة على قراراتها بعيدا عن الأيدولوجيات الصعبة التي تفرض العداء لمريدي التغيير دون تقييم وبحث جاد فيها! هل بوسعهم ذلك حقا ؟! لنر!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست