وجوهرها مجالس المحافظات والمجالس البلدية والمحلية، والتي لقيت أهمية على أعلى المستويات في الأردن؛ إذ جاءت بموجب اهتمام وتوجيهات ملكية سامية إلى الحكومات السابقة المتعاقبة بتبنيها كسياسةٍ عامة للدولة تماشيًا مع متطلبات مبادىء الحكم الرشيد الذي أقرته عالميًا استراتيجيات البنك الدولي منذ عام 1989، في سياق التغيرات والتحولات العالمية آنذاك، والذي تعتبر المشاركة المجتمعية احدى قيمه ومنطلقاته، واللامركزية كأداة لهذه المشاركة، فكان أن خرجت إلى حيز النفاذ بموجب قانون اللامركزية رقم (49) لسنة 2015، الذي سبقه ورافقه جلبة كبيرة من الندوات الترويجية عقدها كبار المسؤولين.
وناقشها كبار السياسيين الأردنيين ضمن عديد اللقاءات الشعبية، وتغطيات إعلامية نشطة، وقد جاء قانون اللامركزية أساسًا ضمن حزمة الإصلاحات السياسية، فيما يتعلق بإصلاح الإدارة العامة والإدارة المحلية في الأردن، لكن القانون وبعد مخاض عسير خرج بصيغة متواضعةٍ لم تبتعد كثيرًا عن ما كان سائدًا من ذي قبل من آليات الإدارة المحلية، ولم تأت بجديد ملموسٍ، وفي حين كان مؤملًا من قانون اللامركزية في الأردن أن يسهم في إضافة كفاءة إدارية على شؤون البلديات والدوائر الحكومية الخدمية والتنموية، وأن يؤسس لمشاركة فعلية ومؤثرة للمجتمع المحلي في إدارة الخدمات والمصالح الحكومية وتمكين المواطنين من الإسهام في عملية تحقيق التنمية ومحاربة الفقر والبطالة، وغيرها من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية على مستوى محلي، ومنح السلطات المحلية من مجالس بلدية ومجالس محافظات مقدار من الاستقلال المالي والإداري بشكل مستدامٍ ومرن، وفتح المجال للمواطنين أن يطلعوا على المخرجات السياسية والإدارية من مداولات وقرارات سواء بحضور اجتماعات المجالس هذه، أو على مواقع إلكترونية متاحة للمواطنين تفتح مجال التفاعل بين مكونات المجتمع المحلي.
وفي إطار تأسيس ديمقراطية تشاركية تعلي من شأن المشاركة الشعبية الفعالة، وتعيد توزيع سلطة صنع قرارات السياسة العامة، وتحقيق مبدأ الحكم المحلي تأتي اللامركزية الإدارية كأداة لتحقيق هذه الأهداف المتمثلة بإعادة توزيع السلطة والمسؤولية والموارد المالية لتوفير الخدمات العامة على مختلف مستويات الحكومة، وإلى نقل المسؤولية عن تخطيط وتمويل وإدارة بعض الوظائف العامة من وزارات الحكومة ومن مؤسساتها العامة المركزية إلى وحدات ميدانية تابعة لها أو مستويات حكومية أو مؤسسات عامة شبه مستقلة، أو مؤسسات على مستوى المنطقة، ومع أن الحكومة الأردنية تبنت في العقود الماضية خصخصة العديد من القطاعات الحكومية وأنشأت العديد الهيئات مستقلة، كما طبقت نموذج حكم محلي يتمثل بالبلديات والمحافظات بأسلوب لم يعد صالحًا بما يكفي للقيام بأدوار تنموية وإدارية تتماشى مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها المملكة.
جاء قانون اللامركزية ليعيد هيكلة الإدارة والحكم المحلي على مستوى المحليات، فمجلس المحافظة هنا باستقلاله الإداري والمالي الضبابي غير محدد بوضوح، والمقيد الصلاحيات بإقرار الاستراتيجيات النظرية والخطط التي لا تعني أكثر من نوايا وطلبات واقتراحات قد لا تجد تطبيق على الواقع في حال عدم توفر موازانتها، لا يعدو عن كونه تطويرًا للمجالس الاستشارية التي كانت مطبقة سابقًا، وكان يرأسها إضافة لترؤسه المجلس التنفيذي، المحافظ والذي يتبع بدوره لوزارة الداخلية، وينسب بتعيين أعضائها المحافظون لوزارة الداخلية، بموجب نظام التشكيلات الإدارية رقم 47 لسنة 2000، والمناط تطبيقه سابقًا بوزارة الداخلية، والذي تم تعديله لاحقًا بنظام رقم 76 لسنة 2017، ليصار إلى نقل أحكام تشكيل وعمل واختصاص المجالس الاستشارية إلى مجالس المحافظات وفق قانون اللامركزية، الذي أنشئ بموجبه مجلس المحافظة الذي أصبح ينتخب 85% من أعضائه، واستقل إداريًا عن المحافظ، مع بقاء مرجعيته القانونية إلى وزارة الداخلية، أي بتبعيته إلى الحكومة المركزية.
ومع أن وجود انتخابات متعددة ودورية لمجلس نواب وبلديات ومجالس محافظات يعد بحد ذاته مؤشرًا ديمقراطيًا معتبرًا ومفيدًا لترسيخ الديمقراطية على مدى بعيد، إلا أن الملاحظ حرص الحكومة المركزية كما اعتادت على أن تكون مهيمنة على صلاحيات إدارة جميع الشؤون العامة في المملكة، وأن يحتكر وزراؤها السلطة النهائية لإصدار القرارات الخاصة بإنشاء الخدمات وتوزيعها على مناطق المملكة، وتعيين الموظفين، وتخصيص الميزانيات للمحافظات، وترددها في منح تنازل يمكن من خلاله أن تفرط ببعض صلاحياتها لأعضاء منتخبين من المجتمع المحلي، ربما بحجة أن المجتمع في حالته الراهنة قد لا يكون قادرًا على إخراج مجالس تضم بعضويتها أعضاء متمكنين من الخبرة والكفاءة الإدارية لاتخاذ قرارات إدارية وتنموية لها عواقب اقتصادية مؤثرة وحسّاسة في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الحرجة، وفي ظل اتهامات بالفساد والتبذير تطال بعض المسؤلين المحليين والمركزيين.
تريثت الحكومة المركزية في منح مجالس المحافظات صلاحيات وامكانيات تتطلبها الأخيرة بإصرار يائس، بينما بدا هدف ترسيخ المشاركة الديمقراطية عن طريق تعزيز مبدأ الانتخابات هدفًا أقل واقعية، نظرًا إلى طبيعة السلوك الانتخابي للمواطنين، حيث تتدنى نسب الاقتراع في العاصمة والمدن الكبرى، بينما ترتفع تلك النسب في محافظات الأطراف، التي كان من المفترض أن تكون المستهدف والمنتفع الرئيس من فكرة اللامركزية، مع كون السلوك الانتخابي فيها محكوم بالطابع العشيري والجهوي، وخالٍ من الاعتبارات السياسية، على غرار انتخابات مجلس النواب، والذي يفوز أكثر أعضائه بآلاف معدودة من الأصوات الانتخابية التي تأتي على أساس عشيري ومناطقي، برغم التعديل الأخير على القانون الذي تبنى القوائم النسبية المفتوحة على مستوى المحافظة، كما أن الأحزاب السياسية على كثرتها وضعفها الشديد ظلت عاجزة عن الاستفادة من التطورات المحدثة على هذه القوانين في تقوية تمثيلها السياسي سواءً في البرلمان، أو مجالس البلديات والمحافظات، وتأكيد وجودها في الحياة العامة باستثناء حزبي جبهة العمل الإسلامي، ونظيره حزب الوسط الإسلامي اللذين حققا بعض المكاسب.
من جهة أخرى لم يسمح نواب البرلمان أن يعطوا مجلسًا منافسًا أدوات تقلل من أدوارهم السياسية والاجتماعية كون السمة الأبرز لأغلب النواب بنظر جزء كبير من الشارع الأردني هي سمة نواب الخدمات والمصالح الشخصية، فجاء القانون بمجلس محافظة ذي طبيعة تداولية استشارية يقتصر دوره على منح الشرعية لخطط واستراتيجيات التنمية المحلية التي تعدها المجالس التنفيذية في المحافظات، والتي هي مجالس تضم المدراء التنفيذيين للمديريات الميدانية لوزارات الحكومة المركزية، وهي محدودة الصلاحيات، مفوضة بأسلوب عدم التركيز الاداري، بسلطة اصدار القرارات المستقلة في بعض الأمور الإدارية البسيطة.
لم يتطرق قانون اللامركزية إلى أي تغيير لتفويض جديد لصلاحياتها التنفيذية، بينما يبدي البعض من أعضاء مجالس المحافظات في المملكة رغبة شديدة بامتلاك مقدار أكبر من صلاحيات تنفيذية، وسلطات على مؤسسات الإدارة العامة والمديريات التابعة للوزارات الحكومية، والغالب منهم ليس لديهم في الواقع إلمام كافٍ بتفاصيل قانون اللامركزية، كما لو أنهم لم يستفيدوا كثيرا من محتوى الدورات التعليمية والتدريبية التي عقدت لهم من قبل وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية التي تترأس لجنة وزارية لمتابعة شؤون اللامركزية، وتتلقى الدعم من وكالة التنمية الدولية الأمريكية (يو إس إيد)، ولم تتضح لهؤلاء الأعضاء طبيعة مهامهم قانونيًا، لكنهم يبدون محبطين بالفعل، ومفعمين بخيبة أمل عريضة من واقع أحوالهم، ومحدودية أدوارهم التي أطّرها القانون المذكور، وهم لا يخفون ذلك الشعور، بل يعبرون بمرارة إلى وسائل الإعلام والصحف والمواقع الإخبارية، البعض منهم بالاحتجاج، وإعلان تعليق حضور جلسات مجالسهم، وهم يفصحون أحيانًا عن نيتهم بعمل مؤتمر يعبرون من خلاله عن استيائهم وخيبة آمالهم وعدم رضاهم عن مجريات الأمور وقصور الإمكانيات المتاحة لهم لممارسة نشاطات إدارية واسعة النطاق متصورة في أذهان غالبيتهم، لا في القانون.
فضلًا عن تشجيع المستثمرين، محليين وأجانب، لخلق قطاعات تولد الوظائف الجديدة لأبناء المنطقة العاطلين عن العمل الراغبين فيه، ولا تطوير رأس المال الاجتماعي في مناطقها، ولا يبدو أنها قادرة ذاتيًا على تنفيذ الخدمات المدرجة في خططها واستراتيجياتها بما يتفق مع نزاهة الإدارة ومعايير الأداء المقررة في القانون، ومبادىء وأهداف خطط التنمية واستراتيجياتها؛ لأنها تعاني في غالبيتها من مديونيات هائلة ومزمنة، ولا تتضمن صناديق ميزانياتها المبالغ الضرورية لعمل استثمارات خاصة، وهي غير قادرة بحكم قصور القانون على الاستقلال والاعتماد على مواردها الذاتية، والتخلص من اعتمادها على الموازنة العامة للدولة أو قروض بنك تنمية المدن والقرى.
يمكن أن نفهم قيام بعض مجالس المحافظات برفض اعتماد دليل الاحتياجات المعد من قبل المجالس التنفيذية كمؤشر على أن العلاقة غير ودية بين المجتمع المدني ممثلًا لمجالس المحافظات، وبين الحكومة المركزية ممثلة بوكيلها الميداني المجلس التنفيذي للمحافظة؛ ما انعكس على مكانة المجالس اللامركزية في المجتمع المحلي الذي لم يلمس أثرًا فارقًا وملموسًا لها، وثمة من بات يرى في هذه المجالس ديكور ديمقراطيًا زائدًا عن الحاجة، وعبئًا غير مبرر على موازنة الدولة، والفكرة التي تروج لها دوائر الديمقراطية الليبرالية، وتنشرها في عديد من بلدان المنطقة بديلًا ديمقراطيًا محليًا عن الإدارة المركزية، كما هو الحال في تركيا ولبنان وتونس ومصر والعراق، تبدو في الحالة الأردنية مهمة مفرغة من المضمون؛ لأن الحكومات المركزية والمجالس النيابية تناصبها العداء والمجتمع لا يستوعبها ولا يؤمن بها.
فهل ستولي حكومة الدكتور عمر الرزاز اهتمامًا بتطوير تجربة اللامركزية وتوعز للجنة الحكومية لمتابعة اللامركزية التي يرأسها وزير الشؤون السياسية ويشارك بعضويتها وزراء التخطيط والمالية والاتصالات والداخلية، ليتم منحها قبلة الحياة، بتطوير وتعديل العديد من القوانين والأنظمة في مجالات عديدة، والضرورية لتفعيل التجربة واقعًا ملموسًا، فتنفخ فيها الروح والحيوية، إيمانًا بأهمية دورها في المساهمة بمساعدة الحكومة المركزية في تحقيق التنمية وتحسين الظروف الاقتصادية، أم ستنشغل عنها الحكومة بهموم المرحلة وتحدياتها، وتدع لهذه المجالس مهمة النضج الذاتي والتعلم في الآونة الحالية لتتعزز خبرات أعضاء المجالس المحلية والبلدية والمحافظات، ريثما يتهيأ ميدان العمل اللامركزي وتنجز التعديلات على التشريعات التي تتمكن بموجبها من العمل بمرونة وكفاءة وشرعية، بدون إشكاليات تضارب وتداخل في الصلاحيات، ولحين تتوفر موارد كافية للوفاء بالمسؤوليات الجديدة لهذه المجالس. وهل ستعمل على استحداث أو تطوير عمل كيانات متخصصة داعمة لجهود اللامركزية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست