جمعتني الصدفة مع إحدى صديقاتي من الماضي، حيث قابلتها بعد انقطاع دام لعدة سنوات متواصلة، لم أكن أعرف عنها شيئًا حينذاك سوى أنها آنسة عملية جدًا وطموحة إلى أبعد الحدود، ضاحكة مستبشرة، وقوية إلى حد يمكنها من مواجهة الحياة، كانت تعمل في إحدى الشركات الكبرى وكانت تتقاضى راتبًا مرتفعًا، تستطيع من خلاله امتلاك كل ما تحتاجه، حيث كانت تستحوذ على سيارة وشقة ورصيد في البنك، وكانت محبة للسفر والترحال، كنت أجهلها في بادئ الأمر، فلقد خدعتني ذاكرتي حين رأيتها للوهلة الأولى، فلم أذكرها بتاتًا، فقد كانت تبدو ملامحها باهتة يتخللها مزيج من التعب والإرهاق، تمامًا أشبه بلوحة فنية يكسوها الغبار.
فلقد حدثتني قائلة: «إنها التقت بشاب أحبته حبًا جمًا، ولكن هذا الشاب واجه صراعًا طويلاً مع عائلته، أشبه بالصراع الطبقي وصراعًا حول اختلاف وجهات النظر، والاختلاف في العادات والتقاليد، ومن هذا القبيل! إلى أن تزوج من أخرى وكان قد أنجب منها، ثم شاءت الأقدار بعد عدة سنوات أن يتزوج من صديقتي التي أهدرت سنوات من عمرها في انتظاره وتزوجت منه بعدما بلغت سن الثلاثين، لتصبح زوجة ثانية في حياته.
ما أثارني ذهولاً ودهشة، ليس أمر زواجهما فحسب! فلقد خيرها بأن تترك عملها وأن تبيع كل ما تملك بعد أن أقنعها بأنها ليست بحاجة لهذا كله، فهو من عائلة ثرية جدًا ويستطيع أن يلبي لها كل رغباتها، وهي بلا أدنى شك، وافقت على طلبه من أجل الزواج منه.
والأدهى من ذلك والأكثر استغرابًا وتعجبًا، أنه بعد زواجهما وبعد انتظارها له سنوات طويلة، وبعد كل التضحيات والعقبات التي واجهتها، لم يستمر زواجهما لعدة شهور، والسبب أنها اكتشفت بعد الزواج، أنه لا يريد الإنجاب منها، فأصبحت تعيش في دائرة مغلقة، حيث خسرت كل شيء، ولم تعد تملك أي شيء، وعن تبريرها من الارتباط به، أنها قد دخلت سن العنوسة وأنها بحاجة إلى طفل، فحاجتها لعاطفة الأمومة ورغبتها في تكوين أسرة وارتباطها بشريك حياتها وتخلصها من كابوس العنوسة، قد أودى بحياتها إلى الجحيم.
تلك القصة جعلتني أذكر قصصًا واقعية كنت قد سمعت بها، ولكنها كانت قصصًا عابرة، ما جعلني أذكرها هو ما حدث مع صديقتي، فلقد أثارت تساؤلات عديدة، كنت أرى أن الأسباب تتمحور حول الدوافع نفسها، والتي تتمثل في التخلص من سن العنوسة، وتحقيق عاطفة الأمومة، والارتباط بشريك الحياة.
تذكرت قصة أخرى لآنسة في سن الثلاثين، كانت هي الأخرى تعمل في إحدى الشركات لسنوات طويلة، وتتقاضى راتبًا لا بأس به، لقد تزوجت من رجل عجوز في الستينات أرمل ولديه أبناء، بعد أن تركت عملها؛ حيث كانت غايتها أن تنجب طفلاً عن طريق الحقن «طفل أنابيب» ولم يكمل زواجهما العام الأول فلقد توفى زوجها ولم تنجح عمليتها، وعادت إلى بيت أهلها خاسرة خائبة، وأخرى في سن العشرينات، تزوجت برجل متزوج ولديه أبناء دون أن يعلن زواجه منها أمام أهله، فكان الزواج فقط بموافقة أهلها والمبرر أنه ثري وزوج لم يعوضّ، وبعد الزواج اكتشفت أنها تعاني من مشاكل صحية لم تمكنها من الإنجاب، فيبقى زواجها متأرجحًا بين مستقبل ضائع وخوف من المجهول.
إنها تبدو قصصًا من وحي الخيال، لكنها من رحم الواقع، وما خفي كان أعظم، كل ذلك جعلني أتساءل هل وصل الحال بفتيات المجتمع العربي إلى هذا الحد؟! هل هذه مبررات كافية، بأن تقبل الزواج من أي شخص لتصبح ضمن قائمة المتزوجات؟ هل تعدي سن الثلاثين مبرر للقضاء على شخصيتها وطموحها من أجل الزواج فقط؟ أية منظومة غريبة ينتمى إليها هذا المجتمع الذي يدفع كثيرًا من الفتيات إلى ترميم أشياء كثيرة مثل عنوستها وسترتها وغيرها بالزواج من أي رجل مهما كانت ظروفه وتحت أية شروط؟ وأية تركيبة تنتمى إليها فتاة متعلمة، حالمة، طموحة، تجعلها تفكر بهذا المنطق؟
لا شك أننا نحتاج إلى جهد كبير كي ننشئ جيلاً قويًا، واثقـًا، يعتمد على نفسه، ويبني نفسه، جيلاً يتم برمجته على معايير وقيم تختلف بعض الشيء عن تلك السائدة في مجتمعنا، لا بد من تشكيل منظومة وتركيبة جديدة لا تعرف للخوف معنى، قادرة على مواجهة الحياة في ظل عدم الزواج والارتباط.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست