هو درسٌ للآباء، فلا تتعجب أيها الأب الكريم، ولا تقولن لنفسك وهل بعد هذا العمر أتُراني أحتاج دروسًا؟

أقول لنفسي ولكل الآباء، نعم. فلربما اشتقنا بين الحين والآخر إلى جلسةٍ نُنْصت فيها لمُعَلمٍ، ربما نتحصل أشياء تتحسن بها علاقاتنا بأبنائنا.

وخيرُ درسٍ كلماته آيات القرآن الكريم ومُعلمُنا فيه الأب الثاني للبشر بعد أبينا آدم عليه السلام، واحدٌ من أولِي العزم من الرسل الكرام، نبي الله نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

نَعمْ نوح الأب الكريم العظيم، ومن قصته نفهم درسًا غاية في الروعة والرقي في التعامل مع أبنائنا. وصدق الله العظيم في قوله: }نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3){ سورة يوسف.

فلنجلس ولنتفهم لمحة من قصة نوح النبي والأب معًا، ولنبدأ من قوله تعالى: }وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43){ سورة هود.

المشهد من هنا ومنه نفهم كل ما كان يفعله النبي الكريم مع ابنه من قبل ونعي جيدًا طريقته التي تخلو تمامًا من التشدد في الحوار حتى مع هذا الابن العاصي الضال. المشهد جماعة من البشر يركبون سفينة تصارع موجًا كالجبال، ونوح هنا أبٌ ينادي ابنه والابن في معزِل، ربما يظن أن هذا المعزِل سيحميه، وأنه سيستطيع الفرار، لكن الأب يعلم حجم الخطر، لذا يناشد ابنه ويرجوه ويستعطفه ويبوء بابنه أن يكون مع الكافرين، والابن يأخذه العناد. ربما كان يود بداخله أن يتراجع، ولكن العناد يورث الكفر الذي يودي إلى الهلاك.

من هذا المشهد نفهم كل ما مضى من قصة نوح الأب العظيم وطريقته في التعامل مع ابنه. وليس أي ابن، إنه ابنٌ عاصٍ لله، كافرٌ عاقٌ لأبيه. ونوح لم يفاجأ لحظة الطوفان العصيبة هذه بابنه وكفره، إنما هو النبي الصابر على الإيذاء، والمُتحمّل كل العناء في سبيل الأمانة الملقاة على عاتقه، هو نفسه ذلك الأب الرائع الراقي المتحضر. هو لم يقل له: أيها الضال! أيها الفاسق! لم يجرحه ولم يطلب منه هذه اللحظة أن يؤمن، إنما طلب منه أن يركب معهم وفقط، وربما يتناقشون من جديد في قضية الإيمان فيما بعد. ولم يمنعه ربه جلَّ في عُلاه أن يقوم بدوره أبًا وأن يظل محاولًا مع ولده حتى النهاية. نَعمْ هو كافر، لكنه في هذه الحالة وعلى هذه الكيفية ما زال ابنك بَعدُ يا نوح، وأنتَ لستَ مقصرًا ولم ترتكب ذنبًا. هو ابنك! حاوِل معه وليبقَ حسابُه عليَّ أنا الله الواحد القهار. نعم، هو الله، ربُنا اللطيفُ بنا لم يجعل الأغلال في أيدينا، ولم يفرض علينا حدودًا في التعامل مع أبنائنا لا نتجاوزها، كذلك لم يوصِنا بأبنائنا إنما وصّاهُم هم بنا، ذلك لأنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر. أما نحن، فربما يأكل بعضنا بعضًا لاختلاف الرؤى والتوجه، وربما نجدُ أناسًا يهدرون دم آخرين، وكأن الله أعطاهم مقاليد السموات والأرض، يُكفِّرون هذا ويكيلون الاتهامات لهذا، معتقدون بأنهم في معزِلٍ، ووالله سُيعرَضُون على الله يوم القيامة، }يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16){ سورة غافر.

لذلك أيها الأب الكريم، مرة ثانية لي ولك، لنا دورٌ نحو أبنائنا لا ينتهي ولا يقف عند حد، إنما ليكن هذا الدور مغلفًا بأسلوب الحوار. ولنعلم نحن الآباء أن أبناءنا يمتلكون عقولًا قد تبدو لنا في بعض الأحيان صلبة عنيدة، لكنها كالأحجار الكريمة، فائقة الجمال زاكية. نعم هي عقولُ أبنائنا، خضراءُ غضة. بعضُهم مثل اللؤلؤ المتكون داخل أصداف المحار يحتاج منا عناءً حتى نهتدي إليه، وللوهلة الأولى يبدو صلبًا، لكنه في حقيقته لينًا نوعًا ما، شديد الحساسية. لذا لا بد من التعامل معه بحرصٍ على قدر جماله. ويشفع له أنه لؤلؤ. ويبقى أجملُ ما فيه أنه وكما يمتص الضوء هو يعكسه أيضًا، لذا يبدو ذا بريقٍ رائع. وبعضهم مثل الألماس النادر الذي لا يزال أمامه وقت ليس بالقصير حتى يتشكل. لذلك كان لزامًا علينا أن نتحلى بالصبر مع أبنائنا، ومهما كثرت المشاكل فمن حقوقهم علينا ألا نتركهم يتخبطون حتى الغرق، وأن نتعلم كيفية مخاطبة عقولِهم إلى أن نصل معهم إلى ما يُرضِي عنّا ربَّنا العظيم. ولنا في القرآن العظيم وفي نبينا الكريم صلّى الله عليه وسلّم خيرُ قدوة، ولنا أيضًا في النبي الكريم نوح عليه السلام مثلٌ وهدىً ونبراسٌ، نتعلم منه ونفهم جيدًا ونتدبر كيف يكون التعامل مع ما نواجه من عقباتٍ مع أبنائنا.

فصلاةً وسلامًا على أنبياء الله أجمعين.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد