الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه، وهو تعريف ضيق للمفهوم، فلطالما قبلت بتعريف الديمقراطية من حيث إنها هي، الإدارة الحكيمة للطبيعة البشرية الراغبة في التحكم والسيطرة. وقد تناولت الفلسفة هذا التعريف للديمقراطية في بحثها عن ماهية الإنسان ونزعاته.
فالديمقراطية دائمًا ما يروج لها في الأوساط السياسية والنخبوية بأنها الحل لأزمات الحكم ولمعيقات تحقيق الطموحات التنموية. لكن الذي يحدث هو التوظيف لها من طرف الذين لا يؤمنون بها، فتصبح مفرغة من حمولتها وتغدو وسيلة لممارسة الاستبداد والسيطرة. وهذا النموذج نشهده في غالبية بلدان العالم الثالث.
في عام 1849، وبعد مرور عام واحد على ثورات 1848 الأوروبية التي بدأت بفرنسا ثم امتدت لتعم معظم أنحاء القارة، كتب جيزو، المؤرخ والوزير الأول لويس فيليب ملك فرنسا، يقول عن الديمقراطية: «هي الكلمة المسيطرة والكلية. فكل الأحزاب تستحضرها وتريد أن تستخدمها كتعويذة».
قبل أن أفكر في خط هذه الكلمات حول مأزق الديمقراطية في ما يصطلح عليه دول العالم الثالث، كنت دائمًا أقلب ما يعلق في ذهني من أفكار وتساؤلات حول القادة والسياسيين الذين يجترون كلمة الديمقراطية ومسارها الانتقالي. في غالب الأمر كانت تصيبني الدهشة من خطاباتهم وهم يلوحون بأيديهم وبعض منهم بعصيهم، ويهمون الناس، بل يسحرونهم بأقاويل تتكرر عند كل معركة انتخابية.
السعي لنيل السلطة هو ما يشغلهم، وإذا كان توظيف الديمقراطية في الخطاب السياسي وليس الممارسة سيحقق المطلب المنشود فلا حرج في ذلك. فأدبيات السياسة المعاصرة تقتضي أن توظف الديمقراطية في أبسط تجلياتها وهي حفظ حق الانتخاب للجميع. ففي الأنظمة المتسلطة ليس لأحد الحق في التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية. فالساسة يأخذون المشهد الديمقراطي الانتخابي بكل تجلياته وتفاصيله ما دام المجتمع الدولي يترقب، بل يشارك في المراقبة في غالب الأحيان. لهذا يكون الاتفاق على أدق التفاصيل في غاية الأهمية حتى تسلم الجرة كما يقال.
وإذا ما قلبنا النظر في مسار الديمقراطية في دول العالم الثالث، سنجد أنها تجهض دائما لصالح حزب حاكم يحصد الأغلبية في كل عملية انتخابية وهذا يكون بمباركة مؤسسة الجيش صاحبة الأمر والنهي. فالحزب الحاكم يكون هو الأداة التي بها تؤد الديمقراطية ولا يسلم من ذلك نخبة المجتمع ورجال الأعمال وهم أطراف في اللعبة حتى تحفظ مصالحهم.
هذا المشهد من حال الديمقراطية والأطراف المتدخلة باتخاذها وسيلة لبلوغ السلطة، هو الغالب في جل دول العالم الثالث، إذا تم استثناء بعض الحالات التي بالفعل تشكل بارقة أمل لباقي الدول الأخرى التي تعيش هذا المأزق. والأسباب التي نشهدها في هذه الحالات الاستثنائية هي عامل مساعد في تحقيق انتقال ديمقراطي. فبقاء الجيش على الحياد، ونضج النخبة السياسية والثقافية، ودعم رجال الأعمال، والوعي الشعبي الذي يواكب المرحلة بكل يقظة وحزم وتوحد، وكذلك استحضارا لموقع التدافع السلمي في تحقيق المبتغى، هي عوامل أساسية وقد تنتفي كليًا أو نسبيًا في الدول التي تعاني الزيف الديمقراطي.
إن وضعية الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، عاشت أزمة ومازالت ربطت الماضي بالحاضر ولا يبدو أن المستقبل سيتغير ما دامت العوامل التي تتغذى منها هذه الحالة المستعصية متوفرة، ونذكر منها:
– وجود نخبة سياسية وثقافية غير مؤهلة للتدافع مع قوى الاستبداد.
– وعي شعبي مترهل أنهكه انشغال بالبحث عن لقمة العيش ومتوجس من ممارسات الدولة القمعية.
– مؤسسة الجيش أصبحت فاسدة ومتواطئة مع الأجنبي في سبيل تحقيق المكاسب المادية.
– التدخل الخارجي في شؤون الداخلية للدولة وعرقلت الديمقراطية كوسيلة لبلوغ قوى معارضة يمكن أن تعيق المصالح.
وتعتبر هذه العوامل التي عددناها من أبرز معيقات تحقيق الانتقال الديمقراطي في بلدان العالم الثالث. فبالرغم مما حققه حراك الربيع العربي في مجابهة العوامل المعيقة بعد سنوات من التقهقر و المد والزجر بين قوى المعارضة والسلطة. يبقى السبيل لشعوب بلدان العالم الثالث، هو الإيمان بالتدافع السلمي والرفض للوضع القائم الذي يمنع التداول على السلطة ويرسخ مزيدًا من القمع والتسلط.
وحتى نؤكد على أن الديمقراطية ليست هي الحل ولا غيرها من نظم الحكم، ما دمنا لا نؤمن بالحرية وتكريم الإنسان ونتعشق تحقيق العدل مع ذواتنا، ونربي أطفالنا على قيم التسامح والتضامن وحرية التعبير. وآخر القول حب السلام ونبذ العنف.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست