لم تقم الحضارة الإسلامية التي حكمت العالم لقرون عديدة على اكتشاف طريق للتجارة أو مصدر للطاقة أو نهضة صناعية أو زراعية كما حدث مع غيرها من الإمبراطوريات، ولكنها نشأت على مجموعة من الأفكار احتواها كتاب الله وحفظها للأجيال التالية، فأصبح مصدر قوة هذه الأمة بين يديها دائمًا إذا عملت بمقتضاه.

وكما أن تمسك الأمة بالأفكار والمبادئ التي حواها كتاب الله، والتي تدعو إلى القوة والعزة والكرامة، والثورة على الظلم، والوقوف في وجه كل ظالم وغاصب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم وإعمال العقل والتدبر في خلق الله، وإتقان العمل، والعدل بين الناس، والرحمة والتسامح مع المؤمنين، والشدة والغلظة على أعدائهم، فكما أن التمسك بتلك الأفكار قاد الأمة إلى التقدم والرقي وجعلها أعظم أمة في زمانها، فإن التخلي عن تلك الأفكار والاهتمام بالفرعيات والشكليات وتحويل الدين إلى مجرد طقوس وعبادات قد جعل الأمة تتراجع وتتداعى عليها الأمم حتى صارت تابعة لا قائدة.

ومع أواخر القرن التاسع عشر وبعد الصدمة الحضارية التي أصابت الأمة نتيجة اتصالهم بالغرب المتقدم الذي احتل بلادنا، ظهرت طائفة من المستنيرين بحق في تلك الأمة، عكفت على دراسة كتاب الله والسنة الشريفة بعيدًا عن تفسيرات العلماء في أزمنة الضعف والتخاذل، والبحث في مصادر الدين الأصلية عن مصادر القوة التي أحدثت نهضة الأمة في أول عهدها، واستطاع هؤلاء أن يجددوا أمر الدين وأن يتجاوزا الخلافات الضيقة في الفروع والتي تحولت عبر عشرات السنين إلى أزمات كبرى بين المذاهب، كان واضحًا لكل متابع أن الأمة في سبيلها للنهضة من جديد، وأن الأمة التي حكمت العالم لقرون عديدة ستنهض من جديد بعد أن عادت إلى مصدر قوتها واستوعبته جيدًا.

وكان المتابع الدؤوب لهذه النهضة الفكرية هو الغرب، الذي يعرف جيدًا قدر هذه الأمة ومقدار قوتها وتأثيرها عليه وعلى العالم كله إذا نهضت من جديد، فكانت خطته من وقتها وحتى الآن قائمة على محورين. الأول هو تفتيت هذه الأمة وتحويلها إلى دويلات متصارعة عن طريق نشر فكرة القومية من خلال أبناء الأمة، الذين تعلموا في جامعاته وتأثروا بأفكاره، وتم زرعهم في المراكز القيادية في كل الدول التي وقعت تحت الاحتلال الغربي سواء العسكري أو السياسي. أما المحور الثاني فكان إغلاق الطريق أمام المستنيرين حتى لا يصلوا إلى مراكز التأثير في بلادهم بالتضييق عليهم والحيلولة بينهم وبين عامة الناس، مع رعاية المجموعات الدينية التي تهتم بالفروع دون الأصول والطقوس والعبادات دون المبادئ التي تبني نهضة الأمة.

ورغم كل التضييقات نجح هؤلاء المستنيرون في نشر فكرهم عن الإسلام الشامل، وانتشر بين أبناء الأمة، وبفضل فكرهم الشامل للإسلام والذي يتضمن البعد الاجتماعي والإنساني وصلوا حتى إلى قطاعات من أبناء الأمة هي بعيدة كل البعد عن الدين، ولكنهم نجحوا في اكتساب ثقتهم وحبهم من خلال تقديم المساعدات الإنسانية والاجتماعية لهم ولغيرهم، مما جعل هذا التيار يكتسب احترام وثقة أغلب أبناء الأمة، وساعد على انضمام المزيد والمزيد لهم حتى أصبحوا هم التيار الأكبر والأقوى في أغلب البلاد الإسلامية.

ولو أتيحت للأمة التي تحولت إلى شعوب متفرقة حرية اختيار حكامها لاختاروا هذا التيار، الذي يؤمن بأن وحدة الأمة هي السبيل لتقدمها، والذي يؤمن بالأفكار والمبادئ التي دفعت الأمة للتقدم في الماضي وستدفعها إن شاء الله للتقدم في كل عصر إذا تمسكت بها، وعندما يصبح هذا التيار هو الحاكم في كل الشعوب أو أغلبها فإنه سيعمل حتمًا على اتحاد الأمة من جديد في دولة واحدة، تتمسك بالمبادئ الإسلامية التي تدفع للتقدم، وعندها سيجد العالم نفسه أمام دولة عظمى تجمع بين التقدم المادى والقيم الإخلاقية والروحية، دولة ستسود العالم وتحكمه لقرون قادمة كما فعلت من قبل.

إن مبادئ الديمقراطية وحق الشعوب في اختيار من يحكمها، إذا طبقت في بلاد الإسلام فإنها ستمثل خطرًا داهمًا على الغرب، لأنها ستعني عودة الأمة إلى سابق عهدها في بضعة عقود. لهذا يردد كثيرون من سياسي ومفكري الغرب مقولة إن الديمقراطية لا تصلح لشعوب الشرق الأوسط، وأن النظم الاستبدادية هي وحدها التي تضمن استقرار المنطقة، وهم يعنون باستقرار المنطقة أن تبقى ممزقة ومقسمة وبعيدة عن مصدر قوتها، منهمكة في خلافات فرعية، منشغلة بسفاسف الأمور عن المقاصد الحقيقية للدين، وهي أن تكون أمة قوية تقود ولا تقاد.

لقد قرر الغرب ومنذ عشرات السنين أن الديمقراطية ممنوعة في هذه المنطقة. فهل سيرضخ الجيل الحالي لما رضخ له آباؤه وأجداده؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد