كأن الربيع العربي الذي تبدد في الشرق الأوسط يعاود الظهور هنا في رومانيا، التي تشهد منذ أكثر من عام ونصف موجة احتجاجات عارمة تجتاح شوارع المدن الرئيسية وساحاتها، وبالأخص العاصمة بوخارست، وتعيد ذكريات أحداث ثورة عام 1989، التي انتهت قبل 30 عامًا تقريبًا بإزاحة النظام الشيوعي.

رومانيا البلد الذي من المفترض أنه تحرر من شمولية وديكتاتورية نظام تشاوشيسكو البوليسي، وأصبح عضوًا في حلف الناتو، ومن ثم انضم إلى الاتحاد الأوروبي، ويحقق منذ ذلك الحين إنجازات اقتصادية على صعيد النمو الاقتصادي، ما زال يعاني من المشاكل الاقتصادية، مثل انخفاض مستوى الرواتب، وقلة فرص العمل، واضطرار نسبة كبيرة من المواطنين للهجرة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي الأكثر تقدمًا، كألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وغيرها من أجل العمل، ولكن المشكلة الأهم هي المشكلة ذاتها التي تعانيها معظم دول الربيع العربي والمتمثل بالفساد الحكومي، والاستبداد.

وبوقت تتزايد فيه انتقادات بعض الشعوب الأوروبية للاتحاد الأوروبي وقيمه، ولا سيما في بولندا وهنجاريا وجمهورية التشيك، وتصعد فيها الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة في أكثر من بلد أوروبي يتخذ غالبية الشعب الروماني موقفًا حازمًا مؤيدًا للاتحاد الأوروبي ومواليًا لحلف الناتو ومواليًا للغرب، لكن المشكلة في رومانيا تكمن في الصراع بين التحالف الحاكم بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والذي يمثل الوريث للحزب الشيوعي وامتدادًا لنهجه وأساليبه في الحكم، وبين أحزاب المعارضة السياسية المؤيدة للاتحاد الأوروبي وقيمه وطموحاته.

وفي خضم أحداث الواقع السياسي والاقتصادي الصعب يبزغ جيل جديد من المواطنين يشمل أشخاصًا اكتسبوا عادات وردود فعل جديدة، شباب مؤمن بالاتحاد الأوروبي، ويرونه الضامن للشفافية، وسيادة القانون، والقيم والثقة. جيل يغمره الشعور بالضيق من الفساد المتفشي لطبقته الحاكمة، وممارساته لحماية الفساد وترسيخه، ويعمل جاهدًا لمقاومة هذا الفساد بالعديد من النشاطات الاحتجاجية، التي ما زال ينفذها منذ حوالي السنة والنصف تزامنًا مع فوز التحالف الحاكم الذي يقوده الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالانتخابات النيابية، في العاصمة وساحات المدن الرئيسية، ولكن ساحة النصر، والتي أنشأها نظام تشاوشيسكو في مجمع حكومي وسط العاصمة بوخارست، ويضم مقرات البرلمان والحكومة الرومانية، باتت اليوم تمثل رمزًا لمرحلة أكثر نضجًا في المقاومة.

عشرات من الاحتجاجات خرجت بها المعارضة الشبابية منذ ذلك الحين، استطاعت في بعضها أن تحشد أكثر من نصف مليون متظاهر، احتجاجًا على الفساد الذي تدعي أنه موجود في كل مكان، في نظام الصحة والتعليم، وشبكات النقل، ومكاتب البريد التابعة له. فساد يعمل على حساب المواطنين العاديين ويتخلل كل مستوى من التنظيم المجتمعي والحياة اليومية في رومانيا ما بعد الشيوعية، ونتيجة مباشرة لاعتداء الحكومة المستمر على الديمقراطية وجهود تدمير سيادة القانون. إنه بالفعل صدام بين أولئك الذين يعتزون بالمجتمع المفتوح وحكم القانون، وأولئك الذين يستاؤون منه ويقومون بالانتهاكات القائمة على المحسوبية والفساد.
واليوم يبدو المجتمع الروماني منقسمًا بين حكومة اشتراكية منتخبة متهمة بالفساد، وبالأخص رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي ليفنيو دراغنيا المدان فعليًّا بعدة قضايا، ومعه الائتلاف الحاكم في رومانيا، المكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي «PSD» وتحالف الليبراليين والديمقراطيين (ALDE)، وبين معارضة يمثلها رئيس الجمهورية كلاوس إيوهانيس وأحزاب المعارضة، ومعهم إدارة المخابرات الرومانية، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي بذلت جهود نجحت في إدانة زعماء الحكم بقضايا فساد، إذ حكم على زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم في رومانيا ليفنيو دراجنيا بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة، لكن قرار المحكمة ليس نهائيًّا وقابل للطعن.

ومن خلال احتجاجات عارمة بدأت من قبل مجتمعات الرومانسية في الشتات أي المقيمين في الخارج إلى جانب الجماعات المحلية – في كل مدينة رئيسية في رومانيا، يوم الجمعة الماضي شهد الرومانيون تجربة هي الأولى من نوعها، إذ استخدمت قوات الشرطة والدرك القوة الوحشية لسحق الاحتجاجات في بوخارست التي شهدت تجمع أكثر من 100 ألف روماني من جميع أنحاء العالم في «ساحة النصر»، للاحتجاج على الفساد الحكومي المتفشي.

وشكل رد الحكومة الرومانية العنيف على الاحتجاجات السلمية صدمة كبيرة، سواء في رومانيا أو خارجها، إذ لجأ الدرك الروماني إلى استخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه. وحدثت مواجهات عنيفة بين المحتجين وعناصر الأمن نقلتها شاشات مصوري الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي. مما أسفر عن جرح أكثر من 400 شخص، بين الجانبين، بما في ذلك طاقم من الصحفيين وبعض السياح، ولحسن الحظ، ساهم الغضب الوطني والدولي الفوري في امتناع السلطات عن استخدام القوة، مع استمرار الاحتجاجات خلال عطلة نهاية الأسبوع. لكن بينما يواصل المتظاهرون الضغط مطالبين باستقالة الحكومة، فإن ما سيحدث بعد ذلك غير واضح.

تعقب ذلك تبادل كل من قطبي الصراع رئيس رومانيا ورئيس الحزب الحاكم اللوم بعضهما على بعض في حوادث العنف التي تخللت الاحتجاجات، إذ أدان الرئيس الروماني كلاوس يوهانس التدخل الوحشي لشرطة مكافحة الشغب ضد المتظاهرين السلميين في ساحة النصر، وندد بزعامة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم (PSD)، وحث الحزب على أخذ الاحتجاجات على محمل الجد، وفي الوقت ذاته حث المجتمع المدني على عدم اليأس والإحباط بسبب ما حدث من مواجهات، وأضاف أن هذا لم يكن دعوة إلى التمرد بل إلى «المسؤولية والمشاركة». وبالمقابل رد الحزب الديمقراطى الاجتماعي الحاكم في بيان صحفي يتهم فيه الرئيس بتضليل الرأي العام والتلاعب به، وأنه مسؤول مسؤولية رئيسية عن الوضع الحالي للمجتمع الروماني، وأنه يشجع «الاحتجاجات الفوضوية» من خلال تأييد رسائل فاحشة ضد الحزب الحاكم، مما أدى إلى «الذهان الجماعي والغضب الأقصى». كما تحدث الحزب الحاكم في رومانيا عن نيته الرد على احتجاجات المعارضة بتنظيم «تجمع هائل» آخر لأنصار الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم (PSD) وتنظيم «مظاهرة ضخمة» أخرى مماثلة لتلك التي نظمت في أوائل شهر يونيو (حزيران) من هذا العام، عندما تجمع حوالي 150 ألف شخص من أنصاره في ساحة النصر في بوخارست، وأدان من خلال حشد كبير لأنصاره ما أسماه الدولة الموازية، والتي يعني بها مؤسسات رئاسة الجمهورية، ووكالة المخابرات الرومانية، وهيئة مكافحة الفساد الوطنية الرومانية.

من ناحية أخرى قال عضو برلمان من الحزب الحاكم إن العنف خلال احتجاج يوم الجمعة كان محاولة انقلابية قادها قادة المعارضة، والرئيس كلاوس يوهانييس، ورئيس جهاز المخابرات الرومانية (SRI)، مسؤول أيضًا عن العنف، كما قررت الحكومة الرومانية تعديل ميزانية الحكومة هذا الأسبوع وخفضت حصة وكالة المخابرات الرومانية (SRI) ورئاسة الجمهورية من الأموال، في حين يعمل الائتلاف الحاكم في رومانيا، المكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (PSD) وتحالف الليبراليين والديمقراطيين (ALDE)، على إصدار وثيقة لتوجيه التهم إلى الرئيس كلاوس يوهانييس بتهمة الخيانة العظمى.

ما يزال الصراع السياسي المحتدم في رومانيا مفتوحًا على كل الاحتمالات، ولا يعرف ما إذا كانت ستؤول جهود المعارضة إلى النجاح في تحقيق مطالبها المتمثلة باستقالة الحكومة الرومانية، التي استبدلت رئيسها للمرة الثالثة من قبل زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وأودعت المتهمين بالفساد الى السجون، وعلى رأسهم زعيم الحزب الاشتراكي، أم أن الحكومة هي التي ستنتصر على المعارضة، وتستمر في نهجها ومشاريعها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد